صرخة استياء: لا تخذلوا مدنيي لبنان


Express Orient - Lebanon: civil society, a lever for change ...

في السياسة بِدَع ما أنزل الله بها من سلطان. عجيب هذا الرفض الأيديولوجي المتزمت عند الشباب اللبناني الثائر لأية مبادرات أو محاولات هيكَلَة للمّ الشمل وخلق أطر تنظيمية تعمل على الإنتقال بالإجتماع اللبناني من فوضى "الديمقراطية التوافقية" إلى "الدولة الإجتماعية القادرة، العادلة والهادفة." لماذا التبرُّم من التنظيم؟ لماذا الخوف من العمل المشترك؟ لماذا الضبابية في تقدير الموقف والتصدي للإنهيار الإقتصادي والإجتماعي وما يطلق عليه شربل نحاس، أمين عام "حركة مواطنون ومواطنات في دولة،" بالإرث اللعين، إرث المحاصصات الطائفية والتغول الأوليغارشي الرأسمالي على وظيفية الدولة؟

كتبت سابقا، على صفحات هذه المدوّنة، حول اللاقيادة (leaderlessness)  كظاهرة مفاهيمية طِبَاقية، من حيث أنها تُحفِّز على التنظيم في ممارسة الفكر والعمل السياسيين ولكن بدون تبنّيه، أي التنظيم، رسميا والدعوة إلى تطويره والإلتزام به. سأكتفي هنا، باقتضاب، بتوضيح بعض النقاط الجوهرية المتعلقة بهذه الظاهرة، ليس فقط بغرض تنوير المزاج العام في لبنان، وإنما، وهو الأهم، لإطلاق صرخة استياء عميق من جانبي، علَّها تضيف شيئا بنّاء إلى الوعي الثوري، المدني-المواطني، الذي نشأ حديثا مع اندلاع ثورة السابع عشر من تشرين الأول المنصرم:

أولا: بلا شك، القرن الحادي والعشرون يختلف جذريا عن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. سقطت دول وقامت أخرى. تبدَّل النظام السياسي وخارطة الإنقسامات العمودية، مجتمعيا وثقافيا، في السياق الواحد، وبالتالي شروط التفجر السوسيو-اقتصادي والمرتكزات الفكرية التي تقوم عليها حركات الرفض أو الإنتفاضة الشعبية أو الثورة العارمة لتغيير الواقع. لم يعد بإمكاننا اليوم الحديث عن خلافات بنيوية بين يمين تقليدي ويسار تقليدي، وهذا في البلدان التي شهدت مسارات تطور براديغمي (مثال: الثورة الصناعية والرأسمالية)، فما بالك بالشرق الأوسط، بدول عربية لم تعرف هذه المسارات أصلا؟ ثم إن التحوُّل الأخير، منذ السبعينيات، باتجاه النيو-ليبرالية قد أفرز بدوره ظواهر جديدة وتحالفات قوى (مثال: حقبة "العمل الجديد" في بريطانيا) غلب على أفكارها ومساهماتها نوع من التدامج الهجيني بين اليمين واليسار. يصح إذا القول بأن سوريالية المشهد السياسي العالمي الراهن، من حيث غياب خطوط الفصل التقليدية بين رؤى كونية متعارضة وتغيّر آليات تشكيل الحكومات ومتطلبات ولوج العمل السياسي، تبرّرُ إلى حد كبير السعي وراء اللاقيادة كحتمية تاريخية مطلوبة لإحداث اختراق نوعي، لتوعية وحشد الجماهير، بلا إطار تنظيمي، حزبي أو غير حزبي، وبلا قائد يوحِّد الصفوف ويقدِّر الموقف ويوجِّه بوصلة العمل المشترك.

ثانيا: لكن هل نجحت هذه البدعة، اللاقيادة، في بناء حيثية سياسية ملموسة يمكن البناء عليها؟ نعم، ففي لبنان، على سبيل المثال، يمكننا القول إن اللاقيادة حققت نجاحا تكتيكيا، بدليل براعة القوى الثورية في الإستفادة من مواقع التواصل الإجتماعي الحديثة لتنظيم المظاهرات وإقامة اللقاءات والندوات ونشر الوعي بالمواطنية والدولة المدنية. ولكن هذا االنوع من النجاح لا يكفي. ففي مقابل تشعُّب وتشرذم المجهود الثوري تحت وطأة عناوين براقة مثل اللاقيادة والتعددية وديمقراطية النضال الإجتماعي وغنى التنوع، نرى على المقلب الآخر استمرار الصعود الكاسح والنجاح التنظيمي المُبهر لمعسكرات اليمين الشعبوي المتطرف – من أقصى الجنوب الجمهوري الموالي لدونالد ترمب في الولايات المتحدة الأميركية، إلى الهند التي يحكمها حاليا حزب هندوسي شوفيني يضطهد المسلمين، إلى جزر الفيليبين التي تُمارَس على شعبها أقسى حملات الرقابة والترهيب باسم الديانة الكاثوليكية، وإلى لبنان، حيث ثالوث الزعامة الطائفية-الإقتصاد الحر-الدولة العميقة لا يزال يستدرج اللبنانيين إلى جحيم التبعية والزبائنية والإحتراب الأهلي. (آخر فصول هذا الإحتراب كان المواجهات المسلحة التي اندلعت منذ أيام، عشية السادس من حزيران، في بيروت ومناطق أخرى.) متى، أتساءل، يستفيق العقل الثوري اللبناني من سباته العميق في مضجع يسارية كوزموبوليتانية مُتخيَّلَة، طفولية، تعتاش على الظن بأن وجود القيادة الموحدة – لا أقول القائد الأوحد – خطيئة رجعية، وبأن رصَّ الصفوف وتنظيم العمل الثوري بكل فروعه ومفاصله تقليدٌ سيئ ينبغي تجاوزه؟ الحقيقة الواضحة، أقله عندي، هي أن اللاقيادة سَوقٌ اعتباطي للناس، عن سابق تصميم، نحو مجهول لا تُحمد عقباه. ألا يبصر الثوار؟ ألا يرون أن فشلهم في تطوير أنماط العمل والإتصال فيما بينهم أصبحت كلفته عالية جدا؟ للأسف، تستهزئ السلطة بالثورة وتستسهل سفك دم الثائر لأنها تدرك جيدا أنه خرج عليها بلا مظلة، بلا قيادة، تكتل أو هيئة أو ائتلاف أو حتى – وهو أضعف الإيمان – مكتب تنسيق مشترك أو لقاء تمثيلي واسع، تحميه وتتبنى علنا مطالبه المحقة. يموت الثائر وهو على غموض، بلا عنوان سياسي. وغالبا ما ينتهي إلى ذكرى متواضعة، تُنسى بعد حين.

ثالثا: ثم لماذا كل هذا الهجوم الحاد على فكرة القائد (أو القائدة) نفسها؟ ما المانع إن انتُخِبَ قائد، أو قل صف أول من قادة وطنيين ديمقراطيين مدنيين؟ كلا، لن تكون نهاية الثورة إن حصل هذا الأمر، إذ أن هنالك بالفعل شريحة واسعة من اللبنانيين، عوام وخواص، متعلمين وغير متعلمين، جامعيين ومهنيين، رجال ونساء، شيبا وشباب، تدين بالمدنية فكرا ونهجا وممارسة. أعلم ذلك لأنني واحد منهم، وكذا أمي وأختي وكل رفاقي وزملائي في العمل. هذه الشريحة تريد من يمثِّلها وهي، ردا على أولئك الذين صرعونا بمحاججتهم بأن السلطة ستعمل على إسقاط أو تطويق أو تطويع قيادة الثورة، لن تتخلى عن قائدها أو قادتها، إن وُجد أو وُجدوا. بل أكثر من ذلك، أنا على يقين بأن الوعي المواطني المتقدم التي تتمتع به هذه الشريحة سيسمح لها بلعب دور المحاسب والرقيب والمُقوِّم. إن يخفق القائد نُوبِّخه ونُقوِّمه وإن أظهر عنادا وشططا عن روح ومقاصد ثورة السابع عشر من تشرين نُقيله ونَستبدله. تربَّينا على النقد العلمي البناء حيث تربى الآخرون على السمع والطاعة، فلم لا تثق الثورة بجماهيرها العابرة للطوائف؟ لم تحرموننا، نحن المدنيين، من قيادة؟ مما تخاف القوى الثورية؟ هل تتوجس من بعضها البعض؟ شعبنا المدني يدرك أن الثورة ليست حملة تبشيرية صليبية أو فتحا إسلاميا مبينا: لا نريد أن يُؤمَّر علينا أمير أو أن يباركنا مُخلِّص، بل نريد أن نُشَرِّفَ أوعانا وأرجَحَنا وأكثرنا علما وكفاءة وأجزلنا نُطقا وأوسعنا صدرا وسماحة وأصلبنا عُودا بتولي زمام أمرنا وقيادة مركبنا، بنا ومعنا، نحو دولة مدنية تحمينا وتحمي سائر المجتمع. شعبنا المدني راشد، فلم تخذلونه؟

رابعا: فلاسفة ومفكرون بارزون، من أمثال برونو لاتور الفرنسي وشانتال موف البلجيكية، يجزمون بأن لا مستقبل للتحركات والإنتفاضات الشعبية المطلبية التي تندلع في وجه الشموليات اليمينية – وهل يعدو النظام السياسي في لبنان كونه سوى شكل من
أشكال اليمينية الشمولية المتنافية أصلا ومفاهيم الخير العام والمصلحة العامة والمساواة والعدالة الإجتماعية؟ – بدون استدراك مخاطر الإنزلاق نحو رومانطيقية جَمعِيّة تُبدِّد الحاجة إلى القيادة والتنظيم. أعود إلى نقطتي الأولى لأذكِّر بأن إحدى مشكلات اليسار، قديما وحديثا، تكمن في انشغاله المفرط في رفع منسوب الوعي. (على سبيل المثال، في العلوم الإنسانية والإجتماعية المعاصرة، أحدث الشرخ البراديغمي بين البنيوية وما-بعد-البنيوية أثرا بالغا، حتى يومنا هذا، في أفكار اليسار العلماني وممارساته الأكاديمية البحثية. فبدلا من أن يكون موضوع البحث العلمي هو تأصيل الواقع تمهيدا لتغييره عبر مقترحات عملية تجيب عن "سؤال البديل"، أصبح موضوعه الحفر التاريخاني في الذوات وحيوات الأفراد اليومية بغية تنويرهم وتخليصهم من الإضطهاد المُمَأسَس.) جاء هذا الإنشغال على حساب التنظيم، بل يمكن القول إن علاقةً ديالكتيكيةً سلبيةً يَصعبُ الفكاك منها نشأت بين ضرورات الوعي من ناحية وضرورات التنظيم من ناحية أخرى. للأسف، نستمر في تقسيم النضال المدني إلى مراحل، ظنا منا أن الرابطَ بين الوعي والتنظيم رابطٌ مكزماني يخضع لشروط المذهب العقلاني في التفكير، بينما هو في الأصل، بحسب لاتور، رابط شبكي-علائقي، بمعنى أن الوعي والتنظيم سيان، وجهان لعملة واحدة.

في الختام، أملٌ ورجاء بعد استياء: لماذا خداع النفس؟ الكل في لبنان بدأ يدرك أن ثورة السابع عشر من تشرين كانت، ولا تزال، ثورة المدنيين والديمقراطيين والعلمانيين واليساريين، محافظين وليبراليين وراديكاليين. بكلام آخر، قد يرفضه البعض، لم تكن الثورةُ ثورةً لبنانية جامعة شاملة. حبذا لو أن المدنيين يشكّلون أكثرية غالبة. حبذا لو يعي المجتمع خطورة الأزمة الكيانية التي تعصف حاضرا بمستقبل البلاد. حبذا لو ينخرط الجميع في مشروع "الدولة المدنية أو الموت،" وهو الحل الوحيد لتوزيع الخسائر بالعدل ومن ثم السعي إلى تحقيق شروط العيش الكريم. ولكن، لا بأس، باستطاعة القوى الثورية أن تضيئ شمعة، أن تنير الدرب الطويل. نستحلفكم بأغلى ما تؤمنون به أن تتوحدوا الآن. أعطونا قيادة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد