لبنان وسؤال الحياد

كذبة العيش المشترك والهمّ المشترك؟

في لبنان، بينما يغرق الشعب في العتمة ويعيش أخطر أزمة كيانية تعصف بالبلاد منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، تكثر الدعوات من أطراف عدة، على رأسها الكنيسة المارونية، لتبنّي ما يسمَّى بالحياد.

طبعا، طرح الحياد في لبنان يتمتع بالمشروعيتين الدستورية والميثاقية، وقد ذهب البعض إلى اعتباره الترجمة العملية المطلوبة لنموذج الحكم اللبناني الهجيني المُقعَّد في براديغم "التوافقية" - "لا شرق ولا غرب،" "لا غالب ولا مغلوب،" "لا يُحَارِب (أي لبنان) ولا يُحَارَب." ثم إن هناك العديد من الدول، كسويسرا والنمسا والسويد وسنغافورة، التي تعتمد شكلا من أشكال الحياد في اصطفافاتها السياسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وبالأخص في أوقات الأزمة. يحاجج دعاة الحياد، استنادا إلى أدبيات كلاسيكية حول نشأة الدول الصغيرة والصغرى (small and mini) (روثشتاين، 1968)، بأن هذه الدول قد استطاعت أن تضرب عصفورَين بحجر: صون وحدة أراضيها واستقلالية  قرارها السياسي وحرية مواطنيها في التجمع والعمل نصرة لقضايا الغير، سياسية أو إنسانية، خارج الحدود، من جهة والإدارة الداخلية للمجتمع بما لا يتعارض ومصالح القوى العظمى أو لاعبين إقليميين كبار من جهة أخرى.

ولكن، كما هو معلوم، ما يُجتَرَح نظريا – والنظري دوما رؤيوي، يُشَخِّص الواقع ويتجاوزه في آن – يصعب تنفيذه سياقيا. هناك، على الأقل، سببان رئيسيان يحولان دون تبنّي الحياد في لبنان:

1.       إختلاف بلا أفق

لبنان دولة فقط، وليس "دولة-أمة،" فبحسب لانج (2015)، تتشكل هذه الأخيرة على أساس هوية وطنية واحدة، تجمع تحت مظلة روايتها الرسمية للتاريخ، بغض النظر عن توافر الإجماع عليها، مختلف فئات الشعب من أعراق وأجناس وأتباع ديانات وملل. كان ولا يزال انعدام وجود هكذا هوية أحد أهم، إن لم يكن أهم، العوائق العضوية أمام تسويغ وتقديم إجابات أنطولوجية محددة على أسئلة الكيانية اللبنانية. فإلى اليوم، وبذريعة أن "غنى لبنان بتنوعه،" يختلف اللبنانيون حول جذور بلدهم الحضارية (فينيقية؟)، حول انتمائهم إليه (نهائي؟)، حول توجُّهِهِ الثقافي (غربي؟)، حول تنازُعِيّتِهِ الإجتماعية (طبقية؟)، حول أصدقائه (العرب؟) وحول أعدائه (إسرائيل ورعاتها؟). لكل فئة، على المستويات كافة، طوائفا وأحزابا، رواية تأسيسية خاصة بها وقضية تدافع عنها وأدبيات هوياتية بذلت أو تبذل الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ عليها.

2.       غياب العلمانية

لا أقصد هنا العلمانية الثقافوية والإنسانوية الشاملة التي تستعدي المعتقدات والقيم الدينية، بل العلمانية الجزئية، الأداتية (المسيري، 2002)، التي تفصل بين العالم السياسي المعني بحماية وإدارة المجتمع والعالم الإجتماعي المعني بحرية نشأة وانتشار المعتقدات والقيم كافة، بما فيها الدينية، دون تدخل من الدولة (إلا في حالات تَهَدُّد السلم الأهلي نتيجة تَغَوُّل معتقد على معتقد، أو قيمة على قيمة أخرى). هذه العلمانية تكاد تكون غائبة مغيبة بالكلية في لبنان، وذلك لأسباب عدة يأتي في طليعتها التراجع المستمر للخطابين المدني والعلماني، اللذين، وللأسف الشديد، تطغو عليهما النخبوية والتعالُم على "الأخر" الطائفي، أمام تحالف أيديولوجيا القوة ("حزب الله") وأيديولوجيا المال (الأوليغارشية السلطوية المسؤولة عن الأزمة الراهنة). إن الحقيقة (أو قل، لتجنب الإطلاق العلمي، شبه-الحقيقة) السوسيو-تاريخية الماثلة أمامي هي أن لبنان يعاني منذ الأزل من وفرة هائلة في المنظومات القيمية، بما فيها المدنية والعلمانية، التي تسعى، كل واحدة على طريقتها، إلى الأحادية والتسلط بشكل يحيل إلى انكماشِ أو كسادِ العمل السياسي، بوصفه جهدا جماعيا يهدف إلى تحديد وتشريع وتحديث، كلما دعت الحاجة، "المتفقات العقلية" – التعبير لابن تيمية – وأسس الترابط (والتراحم) بين الناس. هذا الجهد علماني-أداتي. بدونه، لا سياسة، وبالتالي لا جماعة وطنية. بل أبعد من ذلك، وربطا بالسبب أعلاه، أحاجج بأن العلمنة التي تتوخى تحييدَ الخصوصيات الهوياتية، من عقائد وقيم وروايات ومنظومات ترميزية، لأجل بناء مجالٍ عام يتشاركه الجميع، هذه العلمنة هي بحد ذاتها السياسة!

بناء عليه، هل يمكن الحديث عن الحياد في بلاد لم تعرف السياسة قط (ربما ما خلا، وهو حسب علمي ليس محطّ إجماع، مرحلة النهضة المؤسساتية في عهد الرئيس فؤاد شهاب)؟ ألا يستدعي تدَبُّر هذا الخيار منا نحن اللبنانيين الإنخراط في علمنة مدروسة، نسعى من خلالها للفصل بين السياسي والأيديولوجي، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين المقتضيات العلمية الموضوعية لعروج الدول من جهة ونزعات الذاتية المتشددة التي تتناقض وطبيعة السياسة، بل وتشوِّهُ صورتَها في عقول الناس، من جهة أخرى؟ أليس هذا الفصل هو بالضبط الركيزة الأساس التي مَكَّنَت الحياد وأدامَته في دول كثيرة تشبه إلى حد كبير لبنان من حيث تعدديتها الدينية والإجتماعية والثقافية؟

إن السؤال الإمبيريقي الجوهري الذي يطرح نفسه هنا، على سبيل الإستنكار، هو: ألا تظهر تجارب وجهود كل الدول المحايدة، والمعترف بحيادها دوليا، أن الحياد والعلمنة مساران تاريخيان متلازمان ومتداخلان؟ (للإشارة، إن الإعتقاد باستحالة العلمنة، شاملة أو أداتية، في لبنان هو ما يدفع البعض إلى تفضيل الفيدرالية على الحياد. لاحظ معي خُلوَّ الخطاب الفيدرالي الشائع من مفاهيم ومفردات الحياد.) كفانا إذا هدرا للوقت وإهراقا للفكر والحبر فيما لا ينفع، في بلاد ميتة، تتآكلها الشروخ والتصدعات في كل زمان ومكان. بدلا من التسابق على التسلي الرغبوي بطرح الحياد، كان من الأجدى والأصح منطقيا للبطريرك الماروني وغيره أن ينادوا بما هو في متناول الواقع: سياسة خارجية أكثر حنكة، مرونة وقدرة على المناورة بين مختلف مشاريع السيطرة الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية المطروحة على الساحة العربية اليوم.

المصادر:

Lange, M. (2015). States in the Global South: Transformations, trends and diversity. In S. Leibfried, E. Huber, M. Lange, J. D. Levy & J. D. Stephens (Eds.), The Oxford Handbook of Transformations of the State (pp. 673-688). Oxford: Oxford University Press.

Rothstein, R. L. (1968). Alliances and small powers. New York: Columbia University Press.

المسيري، عبد الوهاب. (2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (المجلد الأول). القاهرة، مصر: دار الشروق. 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد