السابع عشر من تشرين وطوبولوجيا السرديات اللبنانية


 

تتعدد التشخيصات التي يسقطها المتابعون على ما حدث في لبنان في السابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠١٩. ما هي بعض الأمثلة على سرديات الحدث المتداولة؟ كيف يمكن تقسيمها وترتيبها طوبولوجيا؟ وهل من قاسم مشترك بينها؟  


البعض وصف الحدث بالحراك المطلبي. البعض الآخر وصفه بالإنتفاضة (نسبة إلى الإشتباكات المباشرة بالأسلحة البيضاء مع القوى النظامية الأمنية). البعض الثالث، تحديدا في صفوف المهنيين والناشطين المدنيين ذوي الخلفيات الأكاديمية، حاول استقراء معاني ومآلات المشهديات الجامعة (العابرة للأديان والمذاهب) التي أفرزتها فصول الحدث المتنوعة (من ١٧ تشرين إلى ٤ آب) ليخرج بتأطيرات نظرية أولية، من قبيل إحالة الحدث برمته إلى "ثورة إصلاحية" أو "ثورة ثقافية" أو حتى تجليات بدائية، يلزمها الكثير من الصقل، لثورة "ديمقراطية اجتماعية" تعيد رسم شبكة القوى والمصالح والعلاقات الناظمة لميدان العمل السياسي بالدرجة الأولى، ومن ثم، بالدرجة الثانية، المجتمع ككل وميادين العمل (الإمتهان والممارسة والتمرس) بمفهومه الواسع. 


أما البعض الرابع، فقد اعتمد هؤلاء خطابا نقديا لا يرحم. وانقسموا بين فريقين: شامت، كأن يقول أحدهم إن الحدث قد طغت عليه فولكلورية هوياتية؛ وغيور، كأن يقوم أحدهم بتعداد ومباركة ما تم إنجازه حتى الآن، دون أن يغفل الإشارة إلى افتقار الحدث إلى التنظيم والمبادرة والجرأة وصلابة الطرح، خاصة بما يتعلق بالسؤال القديم-الجديد: ما هو سبب الأزمة؟ سياسي أم اقتصادي؟ وبالتالي، ما الأولى بالإصلاح أو التغيير؟ النظام السياسي ("الطائف" أو تطبيقه، لا فرق) أم النظام الإقتصادي (الريع وهرم "بونزي" بفوائده الفاحشة والبحبوحة الإستهلاكية الوهمية التي غرق فيها اللبنانيون طوال عقود)؟


كل موقف من هذه المواقف، وهي لا تنحصر بأربعة فقط، يؤسس لسردية سوسيو-تاريخية مكتملة العناصر. فلكل سردية منطلقاتها وادعاءاتها وحججها ومراكز أبحاث ودراسة رأي عام وملتقيات وأنتلجانسيا أو نخبة فكرية تعمل على تأطيرها وتخريجها في سباق محموم على الشرعية والهيمنة، وإن كان من العسر العسير اليوم، كما يعلم جيدا كتاب السرديات ومروجوها، التأثير في أي كان، نتيجة الدمقرطة التكنولوجية ما-بعد-الحداثية لوسائل الحصول على المعلومة والتحليل. للتعيين، سأقدم هنا ثلاث نمطيات سردية، يشكل اجتماعها في قالب واحد طوبولوجيا نوعية (من نوع) تصلح لأن تكون خارطة إرشاد (heuristic) لتحقيق فهم أكثر عمقا لطبيعة الإنقسامات العمودية التي يتصف بها خطاب نقد الحدث (الحراك/الإنتفاضة/الثورة) في لبنان. هذه النمطيات هي تباعا: 


١. المحافظة (بالإسترجاع): تميل السرديات التي يمكن إدراجها ضمن هذه النمطية إلى ضرورة الحفاظ على إستقرار المجتمع والقواعد الناظمة للعيش المشترك. هدفها الأسمى هو صون الواقع كما هو، خوفا من المجهول أو تربصا بالناس أو رغبة في تأمين ما يعتقد بأنه مصلحتهم العامة (وإن لم يعقلوها). وسيلتها الوحيدة هي الإسترجاع أو إعادة الحفر الأنطولوجي في الذاكرات الجمعية الطائفية لاستنباط أشياء جديدة (أمثلة: مراجعة نقدية أو برنامج إصلاحي أو ورقة نوايا أو طرح استراتيجي، من قبيل "الحياد الناشط" و"المثالثة" و"الميثاقية المناطقية" و"الفيدرالية" و"اللامركزية الإدراية والمالية الموسعة") يمكن استخدامها لصد محاولات تغيير الوضع القائم. في مقدمة صانعي، متبني و/أو مروجي هذا النوع من السرديات الأحزاب السياسية التقليدية والمرجعيات الدينية (الكنائس ودور الإفتاء). 


٢. الإنتظار (بالبحث عن الحقيقة والبديل): تميل السرديات التي يمكن إدراجها ضمن هذه النمطية إلى ضرورة كشف حقائق الجغرافيا والتاريخ والسياسة والإجتماع والإقتصاد لتثقيف الناس وحثهم على معرفة واقعهم، ومن ثم الأخذ بيدهم نحو تحقيق التغيير المطلوب بالطرق السلمية المتاحة (أو حتى بالعنف، الذي يشترط لاكتساب مشروعيته هنا - في حالة القوى المدنية المتصدية للطائفية - نشوء وعي جمعي يكون ليس فقط ما-فوق-هوياتي، بل أيضا ما-فوق-انعكاسي، أي وعي متقدم على النقد، يسعى عبره، أي هذا النقد، إلى التحرر منه حتى يتفرغ للتنفيذ: الإنتقال من برج الفكر العاجي إلى الشارع، حيث المواجهة الحقيقية بين "باطل" السلطة و"حق" الناس). والملاحظ مؤخرا، أقله عندي، هو تفرع هذا النوع من السرديات إلى مدرستين إبستمولوجيتين: الأولى وصلية، تعترف بالطوائف اللبنانية وتتباحثها لا بوصفها كيانات متخيلة (أو إفرازات ترميزية وتدليلية تشكلت تاريخيا عبر تداخل عوامل تكوينية عدة) بل بوصفها كيانات حقيقية. هذه المدرسة تشبه إلى حد معقول سوسيولوجية علي الوردي، عالم الإجتماع العراقي الذي رفض استدخال التأويل والتخييل على عملية التنظير لتشابكية السياسي-الطائفي؛ أما المدرسة الثانية، فقطعية (من "قطع مع الأمر")، ترى في الطوائف كيانات متخيلة، ذات بنى ونظم سوسيو-اقتصادية وسوسيو-ثقافية متينة، لا تعصى على التقكيك النظري بقدر ما تعصى على الإلغاء، التحييد أو التعطيل، وهو أضعف الإيمان. تتقاطع هذه المدرسة إلى حد كبير مع فكر المؤرخ وعالم الإجتماع الفلسطيني حنا بطاطو، والذي، بخلاف الوردي، آثر الهيرمينوطيقا التأويلية على الواقعية النقدية مدخلا نظريا لإعادة تركيب وشرح تمظهرات التطيف والتمذهب (في العراق وسوريا، على سبيل المثال) بدلا من التسليم بها حقائق أو مسببات. ولكن، بغض النظر عن هذا التفرع، ما تجتمع عليه هذه السرديات المتوخية للحقيقة والبديل هو الإنتظار ريثما تتضح طبيعة الأحداث. في مقدمة صانعيها، متبنيها و/أو مروجيها النخب الأكاديمية والفكرية ومنظمات المجتمع المدني المنخرطة بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في إنتاج المعرفة (عبر البحث العلمي، الكتابة والنشر في الصحف والمجلات وعلى منصات التواصل، التأريخ والتوثيق والأرشفة). 


٣. المواجهة (بالعنف): صانعو، متبنيو و/أو مروجو سرديات المواجهة، وفي مقدمتهم الشباب والشابات، لا وقت لديهم اصلا لحبك السرديات. هم يعتبرون أن المحافظة على الواقع إثم، وأن الإنتظار ريثما تنجلي الصورة يحيل إلى أنانية، إلى تجرد واستغراق ذاتيين في الفكر، بلا أفق وعلى حساب العمل، بينما تزداد البلاد تأزما والعباد فقرا وعوزا. الإنتظار سرمدية لا تطاق، وهي إثم أكبر وأشد على قلب المواجه/ة من المحافظة. إذ إن ما يميز سرديات المواجهة، وهي تزداد عددا مع الآيام وتنتشر على نطاق واسع، هو رفضيتها، التي لا تتأتى بالضرورة، كما يطيب للبعض الإعتقاد، عن فلسفة تطرف عبثية أو دهرية أو رغبة فطرية بإطلاق العنان للعنف ("ترجمة للذكورة" أو "تفجر للفحولة" أو "تعبير جامح عن اليأس"). ففي نظري، هي رفضية مدروسة، متأتية عن قناعة راسخة بأن زمن الوقوف على الأطلال قد ولى، وأن التضحية بالجسد الحي، الموضوع الأول والأخير للسياسة والحكم والحوكمة في أي دولة (كما رأى فوكو)، لا بد منها. قد يأتي التغيير المطلوب وقد لا يأتي، ولكن ما يهم عند المواجهين/ات، وقد عاينوا وقارنوا بين أوضاعهم وأوضاع إخوانهم وأخواتهم في بلدان "الربيع العربي،" هو بذل المزيد من الأرواح، لا من الأفكار، الآن وليس غدا. لسان حالهم: "تريدون ثورة بلا ثورة؟" 


من نافل القول هنا أن أشير إلى أن هذه الطوبولوجيا الأولية هي، ككل الطوبولوجيات النوعية، رغم أهميتها، مشوبة بالنقص والقصور النظري. وهو أمر طبيعي ولا بد لكل من يحاول التفكير في الشؤون السياسية من زاوية معرفية الإقرار به. لذا، لا مفر من الإعتراف بصوابية فرضيات التداخل وحتى التطابق بين النمطيات آنفة الذكر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قد يقول قائل إن الاكثرية العظمى من الشعب اللبناني، نخبا فكرية وعامة، تقع في منطقة وسطى صعبة التعيين بين "المحافظة" و"الإنتظار." هذا صحيح، بدلالة التحولات الجذرية التي طرأت وتطرأ على مواقف الكثيرين ممن ارتأوا مغادرة انتماءاتهم الضيقة على الصعيدين الطائفي والمناطقي، وكذا مجموعة لا بأس بها من صناع القرار وغيرهم من العاملين والعاملات في الشأن العام. قس على ذلك أيضا أن البعض قد يعتبر"الإنتظار" و"المواجهة" وجهين لعملة واحدة: ألا يدل خلو الشارع اليوم من "العنف الثوري الشرعي" على تراجع سردية المواجهين/ات لصالح سردية المنتظرين/ات؟ قد يكون تراجعا مرحليا فقط، وقد لا يكون. لا فرق، إذ إنه من المعلوم بالضرورة أن الأحداث التاريخية ذات الأبعاد الثورية تستغرق عقودا من الزمن، من الإنتظار حينا والمواجهة حينا أخرى، كي تؤتي ثمارها. 


أخيرا، تحيلني فرضيات التداخل تلك إلى سؤال القاسم المشترك بين السرديات أو بين نمطياتها. نعم، أميل إلى الإتفاق مع كل من يحاجج بأن الخلافات الجوهرية التي أوجدها أو أخرجها إلى العلن حدث ١٧ تشرين هي، في العمق، أنطولوجيا، ورشة فكر وعمل ودماء غير مسبوقة، تهدف إلى البحث عن ماهية جمعية جديدة، عن سردية شمولية أو أدبية تأسيسية أكثر عصرية. ولكني لست متأكدا. الثابت الوحيد عندي هو أن اللبنانيين، ككل الشعوب العربية التي انتفضت ضد حكامها، ينخرطون فرادى وزرافات في صناعة المعرفة حول ما يحدث. المعرفة والتغيير مساران متقاطعان. سأستمر برصدهما معا. أنا، بهذا المعنى، من "المنتظرين."

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد