دلالات فوز جو بايدن

 


تسمرت على الشاشة طوال خمسة أيام وأنا أتابع مشهدية الإنتخابات الرئاسية الأميركية. كالعادة، أسرتني تعقيدات النظام الإنتخابي الأميركي الذي يمثل شاهدا كل أربع سنوات على عبقرية الآباء المؤسسين. تفصيلاته جمة ويسهل الغرق فيها. ولكن حمدت الله على وجود خبراء عرب وأجانب كثر يتقنون تحويل ما يستعصي على الفهم إلى سهل ممتنع. ومع فوز جو بايدن، السياسي التقليدي، بدأت تقديرات الموقف والقراءات الإستشرافية لمعاني فوزه ومآلاته تظهر تباعا. فالراحة على المفكر، خاصة في منطقتنا العربية المشتعلة بالأزمات من كل حدب وصوب، حرام. إليكم خمس ملاحظات أولية سريعة، هي بعض يسير مما في جعبتي، على هذا الحدث الزلزال بحق: 


١. الحكم والحوكمة لا ينبنيان على الخيارات السياسية والسياسات العامة فحسب، إذ إن شخصية السياسي باشتداداتها الأيديولوجية وامتداداتها الإنسانية مهمة ومقررة للغاية. مثله العليا والتزاماته ومبادئه الأخلاقية لا تزال كلها تصلح لتشكيل معايير انتخابية. الناخب الأميركي بهذا المعنى كان مخيرا بين شخصيتين وليس نهجين سياسيين واقتصاديين فقط.


٢. يقال إن بايدن فاز لأن الناس اشتاقت لما هو "عادي" بعد أن خبرت "الغريب" (الخارج عن المألوف) في فترة ولاية ترمب. هي في ذلك على حق، ولا يصح الرد عليها بالتنبيه إلى أن سنوات الرئيس الأسبق باراك أوباما العادية هي من أوصل ترمب في المرتبة الأولى إلى الحكم. هذا المنطق مغلوط وينبغي محاججته. ففي نظري، الناس تعي ما تقول. هم اشتاقوا للأمر الواقع العادي بوصفه ضدا من أضداد الصدامية، لا أكثر ولا أقل. ترمب كان صداميا. صداميته أحدثت شروخا وصدوعا لن يكون من السهل أبدا تجاوزها. 


٣. لعل العامل الأهم في الصراعات السياسية والإجتماعية والثقافية التي يفرزها راهنا الإستقطاب العمودي بين الشعبويات اليمينية وقرينتها اليسارية هو "الجيلي." أستغرب بشدة غياب المسألة الجيلية عن عقول واهتمامات الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين. فهل ما بات يعرف بالحروب الثقافية في الغرب (والشرق إلى حد كبير) هي ثقافية أصلا أم جيلية تأخذ طابعا ثقافيا؟ أعتقد أنه من الضروري الفصل مفاهيميا بين "الثقافي" و"الجيلي." لا شك آنهما متداخلان، ولكن لكل عامل من هذين العاملين استقلاليته وصيرورته وتأثيره على كيفية تشخيص الواقع والتصدي له. 


٤. فوز بايدن كشف عن معطى محوري لا ينبغي التنكر له: التقدمية الليبرالية-الديمقراطية التي نشأت في أعقاب حركة التحرر الإجتماعي في ستينيات وسبعينيات القرن الفارط في الغرب لم تسقط. بل إن ما حصل من وجهة نظري هو أنه بينما آثرت الأنتلجانسيا التقدمية اليسارية الإعتكاف وتعزية النفس بالمصاب الجلل (صعود اليمينية المحافظة)، ناهيك عن مراجعة الذات وأحيانا كثيرة التراجع عن قناعات كانت يوما راسخة، انصرفت الحركية اليسارية بمؤسساتها ومنظماتها وأجنحتها الإجتماعية كافة (حيث ينضوي الآلاف من الشباب والشابات) إلى العمل. والنتيجة كانت مذهلة: إخراج ترمب من البيت الأبيض. ماذا عساها إذا تكون مقاربة الأنتلجانسيا للإشكالية الحركية بين ظهرانيها في المرحلة المقبلة؟ هل تلتقيان في منتصف الطريق؟


٥. أخيرا، بدأت البلدان العربية تطرح الأسئلة الشائكة عن الإنعكاسات المحتملة لتولي بايدن سدة الرئاسة ("قيادة العالم الحر" على حد تعبير رونالد ريغان) على المشاكل الداخلية (تحديدا توجهات وخيارات الأنظمة الرسمية) والتموضعات والملفات الإقليمية العالقة (الحروب في اليمن وسوريا، التوترات في العراق وليبيا، الأزمة الخليجية والتطبيع مع إسرائيل). القلق مبرر بالطبع، ولكن نصيحتي هي أن يتذكر العرب مقولة الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت: "الحاضر هو مضمار العمل السياسي. المستقبل ليس من اختصاص السياسة لأنه غير معلوم." إذا، اعملوا يا عرب لحاضركم. رتبوا بيوتكم الداخلية وأولوياتكم وسياساتكم الخارجية كي تستطيعوا مواجهة الأميركي غدا. لا تقابلوا بايدن بأيادي فارغة وأفواه فاغرة. 


لا يزال الوقت باكرا لمعرفة نوايا الرئيس المنتخب. في خطابه الأخير، "خطاب النصر،" ركز بشكل أساسي على تيمتين: جائحة كورونا وجائحة الإنقسامات السياسية والهوياتية العميقة التي تهدد السلم الأهلي والعيش المشترك في البلاد. كلماته حيكت باتزان. أداؤه دفع الأميركيين إلى التفاؤل بغد أفضل. مجيئه، قال البعض، "أذهب الرجس" عن الأمة الأميركية والعالم أجمع. ولكن هل كل ما يذهب الرجس يجلب الطهارة؟ الجواب في الشريعة لا. أما في السياسة فلا من رجس ولا من طهارة، بل تيمم دائم بتراب البراغماتية. لننتظر ونر. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

فتور العنصر المدني: وقفة عند التنظير النيو-كلاسيكي للدولة-الأمة العربية الحديثة

مشاكل/إشكاليات المجتمع المدني اللبناني