أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟


مقدمة


في أدبيات علم الإجتماع العربي المعاصر ذكرٌ متواتر لمدرستين متباينتين، خاصة بما يتعلق بتحليل التشكُّل الاصطراعي للهويات الجماعية (وطنية، دينية، طائفية، إثنية، قبلية وهلمّ جرا). المدرسة الأولى مدرسةُ حنا بطاطو، صاحب كتاب "فلاحو سوريا"، الذي ارتكز في تفكيره على منهجية تفكيكية (ما-بعد-بنيوية) تحيلُ الإجابة على أسئلة الهوية إلى تكوينات المجتمع السوسيو-تاريخية، وأهمّها التكوين الطبقي الإجتماعي. أما المدرسة الثانية، فهي مدرسة علي الوردي، صاحب كتاب "شخصية الفرد العراقي". الأخير، بعكس بطاطو، سلَّمَ بثباتِ الواقع في تحرُّكه؛ الهويات مركَّبة، ديناميكية وتطوّرية، ولكنها في الوقت نفسه متأصّلة في ثباتٍ ما - اضطهاد تاريخي ذي وظيفة تأسيسية، على سبيل المثال. لكل مدرسة من هاتين المدرستين نصيبٌ وافر من النقد، من قبيل اتّهام الوردي بالجوهرانية، أي ردِّ الأمر إلى جوهره (أو الجوهر المُتخيَّل له)، ولكنهما تتقاطعان عند محاولة فهم الإنسان قي جغرافيته الإجتماعية المباشرة، ماهيّته وهويّته واشتراكاته الهوياتية مع الآخر. 


الإنسان اللبناني: بين المناهج الرسمية والمناهج المضادة


لبطاطو مكانةٌ في فكري وعملي البحثي، وله سطوةٌ على قلمي، ولكني، مع الوردي، أجد نفسي ميَّالا إلى المحاججة بأن للفرد أو الإنسان، أيا كان، في مجتمعه "شخصية" سياقية، بنائية، تراكمية، بمُحدِّدات وملامح ديالوجيكية (أي تعتمِلُ في تشكُّلها بين الثبات والتحرُّك في الثبات) تنبع من خصوصيات المكان الذي يُعمِّره ويتسيَّده. الإنسان عالمي، لا شكّ، ولكنه مُقعَّد. له بيت، وإن كان بمنازلَ كثيرة (بالإذن من المؤرخ كمال الصليبي، صاحب كتاب "بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصوّر والواقع"). له مجتمع، وإن كان بشعوب عديدة (بالإذن من الكاتب الصحفي سركيس نعوم، الذي لا تغادر لسانه مقولة "هناك شعوب لبنانية، لا شعب لبناني واحد"). لذلك، سوف أسمحُ لنفسي هنا بأن أفتي بجواز الإعتقاد بوجود "إنسان لبناني" وبشرعية الحديث والبحث عن كينونته وهويته، ماضيا وحاضرا ومستقبلا. 


وبناء عليه، بالنظر إلى "الإطار الوطني لمناهج التعليم العام ما قبل الجامعي"، أريد أن أسأل: أي إنسان نريد أن نبني ونُعلِّم (ونتعلَّم منه) في لبنان؟ ما هي "شخصية الفرد اللبناني" التي نريد من مناهجنا الرسمية أن تعمل على قولبتها في المدرسة والأسرة ومكان العمل وكل مجالات التفاعل البشري، في الوطن وعلى امتداد العالم العربي والعالم الأوسع؟ وعلى ذكر العالم الأوسع، لماذا يبدو لكثير من المراقبين والخبراء، ومنهم زملاء وزميلات لي في "الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية"، أن "الإطار الوطني" يقدِّم تصوُّرا للمُتعلِّم/ة يقوم على مبادئ عامة (فكرية، قيمية وسلوكية) مستمدّة من نسقٍ عالمي-كوزموبوليتاني (cosmopolitan globalism) يحاذِر تعريفَ الإنسان بوصفه كائنا محلِّيا، محلّي العاقلة، الوجدان، الذاكرة والمخيال، خاصة المخيال الجمعي؟ وما تراها تكون الخلفية السوسيولوجية العميقة لهذا التصوُّر؟ هل هي التبعية للغرب - "عقدة الخواجة"، كما كان يطلق عليها الروائي عبد الله القصيمي؟ أم هي الحمائية الثقافية والإيديولوجية (cultural and ideological protectionism) - عقدة "الأحوال الشخصية" - التي تجعل كل جماعة تشعر بالقلق والتوجّس من نوايا "الآخر"، الأمر الذي يعني استحالةً مبدئية تحولُ دون إمكانية التأسيس لبحثٍ جدّي في هويّة أو سردية وطنية واحدة، أو حتى، وهو أضعف الإيمان، إطار نظري أو مفاهيمي أو قيمي لذلك الإنسان اللبناني النموذج/المرجِع الذي نريد للمُتعلِّم/ة أن يكون على هيئته؟ 


قد تتعدّد أسباب حضورِ "الإنسان اللبناني العالمي" وغياب، أو تغييب، "الإنسان اللبناني المحلّي" في "الإطار الوطني". ولكن، باعتقادي، السبب الرئيسي ليس" عقدة الخواجة"، على أهميتها، بقدر ما هو العلاقة الشائكة والمعقّدة جدا بين المناهج الرسمية من ناحية والمناهج المُضادة للجماعات اللبنانية المتفرقة من ناحية أخرى. هذه الأخيرة هي بمثابة التجسيد الحي للحمائية الثقافية والإيديولوجية آنفة الذكر، تلك التي بموجبها يتم اعتبار أسئلة أنطولوجيا الإجتماع البشري - أسئلة من قبيل ما/من هو الإنسان؟ - أخطرَ من أن تُترَك للدولة المدنية الحديثة، الدولة-الأمة (nation-state). أما من حيث التعريف، وبالنظر إلى السياق اللبناني تحديدا، فيمكن القول إن المنهاج المُضاد هو منهاجٌ حقيقي، مُمَأسس ومُصرَّح به، ذو مضامين (رؤى ومتبنّيات وتطبيقات وممارسات ومقاربات في شتى المجالات والقضايا) تتعارض إنما لا تتنافى بالضرورة مع مضامين المنهاج الرسمي، بهدف جلب ما يُعتقد بأنه مصلحة للجماعة ودرء ما يُعتقد بأنه مفسدة عليها. (أقول "لا تتنافى" لأن التجربة تثبت أن اللبنانيين واللبنانيات أدهى وأبرَعَ من أن يقدِّموا إنسانَهم اللبناني المُقاس على هواجسهم ومشاريعهم الحمائية بصورة الخصومة المُطلقة مع ما هو "رسمي" من سياسات دولة عامة، في التعليم وغيره.) هذا ويمكن الفصل بين ثلاثة أنواع من المناهج المُضادة في لبنان، أوردها هنا باختصار: 


  • مناهج مُضادة محافِظَة: أقصد هنا بشكل أساسي المحافَظَة الدينية و/أو المذهبية. يسود هذا النوع من المناهج بكل المنظومات الإيمانية والأخلاقية والفكرية (وحتى الطقوسية العسكريتارية) التي تشتمل عليها في القطاعين العام والخاص، كالمدارس الخاصة التابعة للجمعيات والتيارات والأحزاب الدينية و/أو المذهبية والمدارس الرسمية التي لا تتبع ظاهرا لأي جهة من الجهات ولكن تقع في منطقة النفوذ المباشر لإحداها. 

  • مناهج مُضادة علمانية: هي مُضادة لأن لبنان، من حيث الشكل، ديمقراطية برلمانية لا ينص دستورها على أي نمط من أنماط العلمانية في الحُكم. أما العلمانية التي أقصدها هنا فهي العلمانية الجزئية (فصل الدين عن الدولة، أو تصوُّر الدولة، وعن التعليم) والمؤمنة (قَبول المعتقدات والقيم والأخلاق الدينية وإفساح مكانة لها، بارزة أو خافتة، في التعليم). يسود هذا النوع من المناهج في القطاعين العام والخاص، وأخص بالذكر هنا مجموعة كبيرة من المدارس والمؤسسات التعليمية الأخرى الخاصة التي تقدِّم نفسها على أنها علمانية، بل وتعتبر علمانيَّتها ميزة تنافسية في "بلد طائفي"، كما هو دارج القول عن لبنان.

  • مناهج مُضادة عولَمِيّة: وقد يجنح البعض - أفكّر هنا في اليسار الأكاديمي المشتغِل بالفلسفات والنظريات القاريّة - إلى وسمها بالنيو-كولونيالية. تُعنى هذه المناهج التي تسود بشكل شبه حصري في المدارس الدولية ومدارس البعثات الأجنبية الغربية بإيجاد عوالِمَ تعليمية بديلة لا تمت بأي صلة من الصلات العضوية مع الواقع المحلي (الوطني). هدفُها المُعلن هو تجهيز المتعلِّمين/ات بالأدوات والمصادر الذهنية والمادية والرمزية اللازمة للإنخراط في أسواق العمل و"العصر المُعَولَم الحديث" بكل تمظهراته. (من نافل القول إن الغالبية العظمى من المتعلِّمين/ات في هذه المدارس ينتمون إلى الطبقة النخبوية التي تضم في صفوفها أبناء وبنات البيوتات الحزبية والسياسية، وبيوتات المال والأعمال. أيضا، للإشارة، نادرا ما تتكلف هذه المدارس عناءَ شرح رؤيتها العميقة لعلاقة التعليم في لبنان بالعصر المُعَولَم. هل هي علاقة عرض وطلب، أم علاقة اندماج، أم علاقة تكامل؟) 


لكل نوع من أنواع المناهج المُضادة أعلاه تعارضاتُه الكثيرة والمتشعّبة والمتفاوتة الحدّة مع المناهج الرسمية، مع التأكيد على ما أسلفت من أنه من غير الدقيق القول بالتعارض المُطلق، غير المُشتبِك بالتفاوض، في العلاقة بين ما هو مُضاد وما هو رسمي. 


وبالعودة إلى "الإطار الوطني" ومعضلة النقص فيه إلى جهة بلورةِ تَفَلسُفٍ منهاجي حول "الإنسان اللبناني المحلي"، ربّ سائل يسأل: ما المطلوب إذا؟ أن تعلن وزارة التربية والتعليم العالي أنها لن تقبل بهيمنة الحمائيات الثقافية والإيديولوجية الفرعية (ما-قبل-الدولتية) بمناهجها المُضادة على التعليم؟ وأنها بالتالي ستعمل جاهدة على استيعاب ما هو مُضاد تمهيدا لإزالته أو حتى تهذيبِه، تقويمِه، إعادةِ توجيهه بما يخدم "الصالح العام"، صالحِ الإنسان اللبناني المتّصل لا المنسَلِخ عن مكزمانيته المعيارية (normative spatio-temporality)؟ أم أن هذا أضغاث أحلام؟ أدرِكُ أن معالجة مسألة المناهج المُضادة مهمّة دونها الكثير من الصعوبات والعقبات، وقد يقول البعض المتشائم (وهو ربما معذورٌ في تشاؤمه) أنها مستحيلة، ولكن ما أستنكره - وهنا بيت القصيد - هو خُلوّ "الإطار الوطني" من أي لَحْظ، مجرّد لَحْظ، لوجود تلك المناهج وترسُّخها ودورها السلبي، بل والهدّام للمناهج الرسمية والنظام التعليمي العام برمّته. هل نحن خائفون أم متواطئون أم في مرحلة سباتٍ عقلي وضميري بتنا نعجز فيها حتى عن تسمية الأشياء بمسمياتها؟ 


خاتمة 


لا أخال الوردي وطنيا شوفينيا. هو لم يجتهد في رسم "شخصية الفرد العراقي" لأنه آمن بفرادَةٍ أو عُلويّة أو أسبَقَية عراقية ما، بل كان همُّه أن يساعدَ العراقيين والعراقيات على فهم أنفسهم وبلدهم. وأنا كذلك: أريد من مناهج التعليم العام ما قبل الجامعي اللبنانية أن تساعد المتعلِّمين/ات، تلامذتنا الأعزاء على قلوبنا جميعا، على فهم أنفسهم وبلدهم، بكل جمال وروعة هذا البلد، ولكن أيضا بكل جروحه ومآسيه. الإنسان اللبناني عالمي، وله أن يفرَحَ ويتغنّى بعالميته، ولكن أما آنَ أوانُ أن نُرِيه آيةً من عند تاريخِه، من عند بيتِه وناسِه؟ 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد