أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي
كلَّمتُ أمي البارحة. وكان محور حديثنا أوضاع الشتات الفلسطيني وتلك الرحلة المُضنية من لحظة تفتُّح الوعي بالذات على أساس الأصالة، أي الشعور بأن الإنتماء، في هذه الحالة إلى "البلد المُضيف"، حقيقي وطبيعي، إلى لحظة الشقاق الأنطولوجي الهوياتي طويل الأمد مع ذلك الوعي، لحظة الإنقلاب على الأصالة بالإكتساب، أي تطوير إدراك أنك، كفلسطيني/ة، تنتمي ولا تنتمي، أو تنتمي "ضيفا"، لا أكثر.
استعملت أمي كلمة "صفعة" في سياق وصفها لوقع هذا الشقاق على الفلسطيني/ة، "الضيف الدائم". يمكن بالتخييل التأويلي، فينومينولوجيا، أن نُفَلسف هذه الصفعة بأن نصوِّرها بابا بين غرفتين، بين واقعَين، واقع الكينونة بالأصالة ("أنا أنتمي، وهذا وطني") وواقع الكينونة بالإكتساب (" أنا لا أنتمي. أنا طريد").
قالت أمي: "في الجامعة [الجامعة اللبنانية] صُفعتُ بكوني فلسطينية. كان وعيي بفلسطينيتي قبل الجامعة وعيا خافتا، وعيا عضويا، لا مركَّبا، وعيا جميلا، وعيا لم يُشغلني لأنه لم يُعطِّل حياتي اليومية".
يمكن، إذا، تقديم تعطيل الحياة اليومية على أنه آليّة من آليّات الشقاق/الصفعة. بالنسبة للفلسطيني/ة، الحياة اليومية بحرٌ يفصل بين شطّيْ الأصالة والإكتساب، بين الحق في الأصالة، بمعنى أدق، والتمرين الذاتي، عديم الأُفق (للأسف)، على الإكتساب. أما الجامعة، فجغرافيا اصطدام واصطراع اجتماعية - صخرة، لا هي مُميتة ولا هي مُنقِذة، بين أمواج هذا البحر الغاضب.
ثم زادت أمي: "لم تقل لي جدَّتُك إنها فلسطينية. لم تقل لي إني أنا فلسطينية. لم تعلّمني معنى أن أكون فلسطينية. هل لأنها كانت تريد أن تشعرني بأن كل شيء على ما يُرام؟ لست متأكدة. كانت تصحبني معها، وأنا طفلة، إلى مركز الأمم المتحدة لتوزيع الإعاشات والمساعدات الغذائية. أذكر أني كنت أحدِّق طويلا في طوابير الناس، ولافتة زرقاء كبيرة عليها كلمة 'لاجئين'. ما معنى 'لاجئين'؟ لم أكن أعلم. كنت أعتقد أن الكل يُحصِّل قوته هكذا. يستيقظون صباحا، باكرا جدا، ليذهبوا إلى المركز ويحصلوا على 'كرتونة أعاشي'! والأطرف، أيضا، أني كنت أعتقد أن الجميع يسكن في مخيَّمات لجوء. 'المدينة' و'القرية' كلمتان تعلَّمتهما في المدرسة".
طفولة الفلسطيني/ة، إذا، هي طفولة بيداغوجية، مُختلفة عن مفهوم الطفولة البريئة الساذجة بالضرورة، الذي أصّلت له فلسفاتُ التنوير الحداثية الأوروبية، ولمفهوم الطفولة الناضجة الواعية المشتبكة اشتباكا تحاوريا مركَّب البنى والمستويات مع الواقع، الذي أصَّلت له فلسفاتُ التفكيك ما-بعد-الحداثية، أوروبية وأخرى. وما أعنيه بالطفولة البيداغوجية هو أن تكون الطفولة مبنية على فريضة تعلُّم غير معلنة. الطفل الفلسطيني لا يحيا، لا يعيش، لا يكون كينونة متجرِّدة تحميها أطرٌ حقوقية مُتجسِّدة في مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية. بل هو يحيا ليتعلَّم دائما، يعيش ليتعلَّم دائما، يكون ليتعلَّم دائما. الراحة عليه حرام. إن لم يتعلَّم ويتعلَّم التنبُّه إلى التعلُّم تعثَّرَ اكتسابُه. الطفولة البيداغوجية بيداغوجيةٌ لأنها تنشأ في الخسارة، خسارة الحق في الأصالة.
أما المخيَّم، فليس يشبه "المدينة الموقوفة" - تعبير وضَّاح شرارة لوصف الضاحية الجنوبية لبيروت. هو لا-مكان، بسبب استعصاء الشكل، وإن كان، شأنه في ذلك شأن الجامعة والمدرسة، حلبة اصطدام (مع خوارج النفس والهوية) واصطراع (مع دواخل النفس والهوية). وفيه تكون بيداغوجيةُ طفولةِ الفلسطيني/ة مضاعفة عدة أضعاف.
لأن المسألة التي نحن بصددها هنا - معنى أن تكون فلسطينيا، تاريخيا وفي الزمن الحاضر - معقَّدة ومتشعِّبة وتستلزم مبحثا علميا مستقلا، سأنهي بالخلاصة الأولية الآتية: أن تكون فلسطينيا يعني أن تمكُثَ في الإكتساب، لأنك مصفوعٌ بتجريدك من الحق في الأصالة (الحق الذي، بالمناسبة، تتكوَّن باسمه الهويات والمشاريع الوطنية وتُبنى على قاعدته الدُّول). ولن يُسعفك على مرارة هذا المكوث سوى بيداغوجيتك، التي اكتسبتها في الطفولة.
للحديث صلة.
تعليقات
إرسال تعليق