مفاهيم لبناء مناهج تربوية: التعدد واللحمة في السياق اللبناني




على مناهج التعليم العام أن تعمل على بناء الهوية الوطنية الدامجة على مستويات التعليم والعملية التعلُّمية والإدارة التربوية كافة. للهوية الوطنية الدامجة رُكنان متشابكان، يكمل أحدُهما الآخر: التعدُّد، بمعنَيَيْه الواسع والضيّق، واللُّحمَة، التي يجب أن تكون هادفة. 


الركن الأول، التعدُّد، يحيلُ إلى اختلاف المواطنين والمقيمين أفرادا وجماعات، من حيث مُتَبنِّياتهم الفكرية، توجُّهاتهم السياسية، تقاليدهم وعاداتهم الاجتماعية المُكتسبة، ثقافاتهم وأساليب عيشهم وآرائهم ومواقفهم من الشؤون العامة والقضايا المعاصرة، بالإضافة إلى تنوُّعِهم الديمغرافي (الفئة العمرية، الطبقة الاجتماعية، الأسرة والعائلة، مكان الإقامة، التحصيل العلمي، المهنة، الكفايات والمهارات الذاتية والاجتماعية، النوع الاجتماعي - الجندر - والنوع الجنساني). إن عمليةَ صناعة المناهج العتيدة على أساس هذا الركن تشترط، من بين أمور أخرى، تحقيقَ التالي: أولا، اعتراف المناهج صراحةً بالتعدّد، على سعته، وبالحقوق السياسية والمدنية الشاملة المترتِّبَة عن هذا الاعتراف للأفراد والجماعات كافة؛ ثانيا، الإقرار، توازيا مع هذا الإعتراف، بأن التعدُّد، بالرغم من كونه مصدرَ غنى وتنوُّع، إلا أنه يحمل في طيّاته إمكانيات النزوع إلى توليد تماسُكات انتمائية ضيّقة ومحدودة (مثال الطائفية، المذهبية، المناطقية، التحزُّبية المُغلَقَة والزعاماتية)، تماسُكات غالبا ما تتمَدَّد وتتكرَّس على حساب الوطن، المجتمع والدولة ومؤسَّساتها. 


أما الركن الثاني، اللُّحمَة، فيحيلُ إلى واجبِ تكريس مفاهيم ومشاعر الانتماء إلى المجتمع الواحد في تعدُّدِه في المواطنين والمقيمين معا، والعمل على الإرتقاء بالتعدُْد، صقلِه وتطويعِه كي يصبحَ هادفا، أي، على وجه التحديد، أن يتحوَّل، إلى مصدرٍ لقُوَّتَيْن إنتاجيَّتَيْن مترابِطتَيْن: قوّة استدامةٍ وتطويرٍ مُنصِف وعادِل للمجتمع بكلِّ فئاته وقطاعاته في أوقات الرَّفاه، وقوّة تَوَحُّد وحماية ودفاع عن المجتمع في أوقات الأزمات، كالأزمة الاقتصادية والمعيشية الحادّة التي حلَّت بلبنان بداية عام ٢٠٢٠. إن عمليةَ صناعة المناهج العتيدة على أساس هذا الركن تشترط توليدَ و/أو تبنّي الأسس النظرية والبناءات المعرفية والتطبيقات العملية، لا سيما في المواد والكتب الدراسية وعلى صعيد الأهداف والخطط المتعلقة بملامح خريجي التعليم العام في القرن الحادي والعشرين، الكفيلة بتحقيق التكامل، مفهوما وممارسة، بين الأفراد والجماعات. وإن كان التكاملُ، بادئ ذي بدء، يكمنُ في قبول الآخر والتعرُّف عليه، فإنه، مع الوقت والجهد، يصل إلى غايته المثلى عندما يتمكّن من بلورة إيجابيات القبول والتعرُّف بشكل يتيحُ إمكانيةَ تجاوزِ، وليس إلغاء، التماسكات الإنتمائية الضيّقة والمحدودة للانتقال إلى ما هو أرحب وأشمل: الوطن، المواطنية، الإنسانية، وحدة الأرض والسيادة، الدولة القادرة والعادلة والمجتمع الذي يعي ويصون الصالحَ العام. 


إن مساهمةَ مناهج التعليم العام في بناء الهوية الوطنية الدامجة برُكنَيْها، التعدُّد واللُّحمَة، شرطٌ أساس لتحقيق الأمن التربوي اللبناني. 


هذا النص كتب بالإشتراك مع الأستاذة سلام بدرالدين. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد