العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد



شيء ما يلوح في الأفق مع الإعلان عن زيارة قريبة للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، في ١٥ و١٦ تموز القادم. الكل يتحدث عن ترتيب إقليمي جديد. البعض يطلق عليه "البدر السني" أو "السهم الذهبي السني" في مواجهة "الهلال الشيعي". البعض الآخر يؤثر الإضاءة على الجانب الاقتصادي الذي من المُتوقع أن يشهد إعادة إحياء لمساراتِ تعاون تاريخية بين الأميركيين من ناحية وحلفائهم العرب (والأتراك) من ناحية الأخرى. نقاشات هؤلاء جميعا تكاد تنحصر في التحضيرات السياسية والاقتصادية للزيارة. 


ولكن ماذا عن التحضيرات الاجتماعية؟ كيف تحضِّر الأنظمة الرسمية العربية، سواء تلك التي ستشارك في فعاليات زيارة بايدن أو تلك التي، كلبنان، ستكتفي بالمراقبة، (كيف تحضر) على الصعيد الاجتماعي، أي على صعيد علاقاتها بشعوبها؟ 


سياسيا، سيتم العمل على إعادة إنتاج ما يسمى بمحور "الاعتدال" العربي المتحالف دفاعيا مع أمريكا (وإسرائيل هذه المرّة)، وستصبح تمظهرات صراع مِحْوَرَي "الاعتدال" و"المقاومة" أكثر رسوخا وخشونة، وربما دموية. اقتصاديا، أصبح من الواضح أن أحد أهداف الترتيب الإقليمي الجديد هو إرساء أنظمة تعاون (أسس، اتفاقيات، تفاهمات، شراكات، الخ) لاستخراج واستثمار مصادر الطاقة النفطية والغازية الكامنة في جنوب وشرق البحر المتوسط، تأمينا للطلب الإقليمي والعالمي المُلح في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا. تندُر التباينات في وجهات النظر حول هذين الجانبين، السياسي والاقتصادي. أما اجتماعيا، فما من سائل، وهو أمرٌ غريب إذا ما قيس بالاستناد إلى النظريات العلم-سياسية والعلم-اجتماعية الحديثة التي تقول بتداخل المسارات - السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية - في تاريخ وحاضر ومستقبل الأمم والشعوب. 


قبل الإجابة، يجدر بنا العودة إلى دفاتر التاريخ كي نجلي هويّة "البعبع الاجتماعي" الذي ابتدعته الأنظمة الرسمية العربية لتثبيت شرعياتها (شرعية الحُكم، شرعية الإنجاز، الخ) في كل حقبة من الحقب. متصحِّف/ة هذه الدفاتر سيجد التالي: "بعبع" السبعينيات والثمانينيات كان الشيوعية والاشتراكية؛ "بعبع" التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة كان الديمقراطية الليبرالية؛ "بعبع" العشرية الثانية من الألفية ("بعبع" ثورات الربيع العربي المُضادة) كان الإسلام السياسي (في بعض الدول، قُبِّحَ الإسلام كلّه، بحجة أن "الثورات خرجت من المساجد"، كما قال أحد مثقفي السلطة العرب!). 


أما "بعبع" العشرية الثانية، وربما العشريات اللاحقة، فيبدو أنه في طور التشكّل، وأحاجج بأنه المثلية الجنسية. ذلك أن الشيوعية والاشتراكية ومُفرزاتها العقائدية والأيديولوجية التي تكاثرت تكاثرَ النمل فقدت وضوحها ولم تعد تصلح بعبعا. والديمقراطية الليبرالية هي الأخرى بدأت تفقد بريقها وقوتها الناعمة، منذ أن تبوّأت اليمينيات الشعبوية سدّة الحكم في أكثر من دولة غربية وشرقية. وبالنسبة للإسلام السياسي، فحَدِّث مع كثير من الحرج. هو أكل نفسَه بنفسِه أصلا، باعتراف شريحة واسعة من قادته ومريديه، وقدَّمَ على طبق من فضة مسوّغات الانقضاض عليه. أصبح ضعيفا جدا بعد أن تشتّت وهبط من منزلةِ "الإسلام هو الحل" أو "البديل هو الإسلام" إلى منزلةِ معارضةٍ سياسيةٍ انتهازية، منقسمة على ذاتها وخاضعة لرغبات وإملاءات أهل السلطة في مختلف أماكن تواجدها. خسرَ قدرتَه على إثارة الذعر بين الناس، فأُسقِطَت عنه رتبة "بعبع". 


إذا، ها هي الأنظمة الرسمية العربية تعطي الضوء الأخضر لصناعة "بعبع" اجتماعي جديد، هو المثلية الجنسية، بعد أن ضاقت بها السبل وتيقَّنت أن ملجأها الوحيد هو التراث الديني الذي يضجُّ بالمُسبَقات والمُطلقات والتفاسير والاجتهادات التي تصلح معاملَ لإنتاج كراهيّات مطلوبة لتأليب الناس ضد بعضهم البعض وإشراكهم، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، في "جهاد أكبر" دَولَتي-بوليسي، عنوانُه "الاستقامة الأخلاقية"! والأمر لا يحتمل تضييع الوقت، إذ أنه قد باشرت هذه الأنظمة بالفعل حملَتَها العنيفة على كل من تسوّل له نفسه المثلية - لكأني بها مسألة خيار - و/أو التعاطف مع أو مناصرة حقوق وقضايا المثليين والمثليات وسائر مجتمع الميم: في مصر والأردن، منعٌ لأفلام تتضمن شخصيات مثلية أو "مشاهد تُشجّع على الانحراف"؛ في بعض دول الخليج العربي، منعٌ لأفلام معطوفٌ على أخلاقوية نصوصيّة مُستحدثة مُتمثِّلة في الرقابة الصارمة على المناهج والكتب في التعليم الأساسي والتعليم العالي، بالإضافة إلى الصحف والمجلات، خاصة تلك الموجّهة إلى الأطفال؛ في سوريا، منعٌ لطائرات ورقية تحمل ألوان قوس القزح (!)؛ وفي لبنان، "بلد الحريات"، منعٌ لمسيرات وبيانات تكميم أفواه لمشيخات إفتاء وعقل ومشادات كلامية على المنابر الإعلامية ووعود رسمية بالتصدي لمحاولات "تغيير هوية المجتمع". 


هذه الشواهد الأولية على تكشير "بعبع" المثلية عن أنيابه ستتفاقم وتزداد خطورة على مدى السنوات القادمة بفعل حافِزَيْن أساسيَّين متداخلَين: تقديم ملف الاستقرار السياسي والاقتصادي على ملف حقوق الإنسان، ويمكن القول إن ذلك هو إحدى أهم بوادر صعود ما بات يُعرَف بالعالم مُتعدّد الأقطاب، حيث لكل دولة (عظمى) حرية التصرف بمصير مواطنيها، في الداخل والخارج، دون روادع أو ضوابط ما-فوق-دَولَتية؛ تقليص المجال العام الحقوقي العربي، مع ما يستتبعه ذلك من سياسات وممارسات قمعية تهدف إلى الإجهاز على الحركات المطلبية بكل أطرها وأشكالها ومهما كانت برامجها، وبالأخص تلك البرامج التي تشمل أو تتمحور حول حقوق الأقليات الاجتماعية والثقافية، كالأقليات الجنسية. هذا على صعيد الحوافز. أما على صعيد الأيديولوجيات المُحرِّكة وأدواتها التنفيذية، فالقائمة تطول وتطول، وإنه مما لا شك فيه أن الذكورية الغَيريَّة تأتي في الصدارة. 


خلاصة القول أننا على أعتاب ترتيب إقليمي جديد سيُتوَّج مع زيارة بايدن إلى المنطقة الشهر القادم. تحضيراتُ هذا الترتيب السياسية والاقتصادية اكتملت، وتحضيراتُه الاجتماعية تُطبخ على نار هادئة. الخطوة الأولى كانت اختيار المثلية الجنسية عدوا اجتماعيا! 


شدّوا الأحزمة! 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟