انفجار مرفأ بيروت.. وانفجار الجدالات البيزنطية



الفواجع الكبرى تفرق ولا توحد، لسبب بسيط: الفاجعة، كانفجار مرفأ بيروت (بيروتشيما، كما هو شائع اليوم)، هي نتيجة فشل وضعي، من صنع البشر، في إدارة المصادر والمقدرات والمرافق الحيوية ومصالح الناس. حتى جائحة كورونا المستجدة، كما شرح العديد من العلماء والخبراء، يمكن ردها بشكل جوهري إلى فشل إدارة الحزب الشيوعي الصيني في مراقبة وقوننة عمل اسواق بيع اللحوم الحية.


فالفشل، بعكس ما يعتقد الكثيرون، لا يستنهض ويستجلب الحلول بقدر ما يولد المشاكل ويعمق الخلافات السابقة عليه، ذلك أنه يفتح الباب واسعا أمام أسئلة المسؤولية والمحاسبة الشائكة. بلا شك، قد تنهض الأوطان من كبوات فشلها الجمعي في المدى البعيد، ولكن ليس قبل أن تخوض الفشل، أن تختبره، أن تقاسي آلامه وتصطدم بتجليات الهزيمة الشاملة التي يفترضها.


من صور الفشل المدوي، الهزيمة الشاملة، التي بدأت تعصف ببيروت ولبنان في أعقاب فاجعة الرابع من آب هو الإنزلاق بوعي أو بلا وعي في جدالات بيزنطية عقيمة تنم، في نظري، عن حالة تشتت ذهني أو قصر في استيعاب التداعيات الكارثية للفاجعة أو حتى، وهو أمر لا أستبعده البتة، نية خبيثة لحرف الأنظار عن الواقع المؤلم المأساوي بغية تعويم أولئك الفشلة الذين صنعوه وقدموه للتناول على طبق من أشلاء وعظام ودماء متطايرة شذر مذر. المحزن هو أن المتجادلين، وبعضهم ينتمي إلى علية المراتب الأكاديمية، يعمدون بلا خجل إلى تبرير لهوهم الكلامي بدعوات أيديولوجية سمجة، من قبيل القول بأن فناء الحجر والبشر لا يستلزم التواضع العقلي. لا يجوز للفكر أن ينقطع، لا في زمن السلم ولا في زمن الحرب، ولا حتى في زمن ارتكاب النظام الرسمي جريمة حرب، بل قل إبادة، موصوفة بحق شعب بأكمله! كم هي سقطة أخلاقية مروعة أن تسول للمرء نفسه تقديم برودة الفكر (وأي فكر، فكر الوعظ والإرشاد والتعالم على الناس) على دفء الحياء، مع المكلومين، مع الموت، مع الدم. 


سأعرج هنا باقتضاب على ثلاثة جدالات لفتت نظري في الآونة الأخيرة:


١. بين "ضحية" و"شهيد": هناك معركة عير معلنة على مواقع التواصل الإجتماعي بين من يعتبر قتلى الرابع من آب ضحايا وبين من يعتبرهم شهداء. منطوق الفريق الأول أن القتلى لم يختاروا الموت، مما يجعلهم ضحايا، لا شهداء. أما الفريق الثاني، الذي بالمناسبة لا يشبه الفريق الأول من حيث الإستماتة في الدفاع عن الموقف والتمادي في أدلجة الواقع، فيرى مجادلوه أنه بالنظر إلى ما يستتبعه العيش في لبنان من شظف ومعاناة وصبر دائم على الملمات، يمكن اعتبار كل المقيمين من لبنانيين وغير لبنانيين محاربين ضد دولة غائبة مغيبة، وبالتالي مشاريع شهادة. والحال أنه مع سعة فهمي وجزيل تقديري لدلالات هذا الجدال فإنني لا أراه نافعا! النعتان، ضحية وشهيد، كلاهما يؤدي الغرض نفسه: التسامي بمقتول/ة بذل/ت الغالي والنفيس لرد فقر أو عوز أو مهانة أو ظلم متماد أخضعت له بلا هوادة، على مر عقود. علام الخلاف إذن؟ 


٢. بين "صديق" و"مستعمر": اختلف اللبنانيون حول زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى البلاد. فبينما أحال البعض الدعوة إلى إعادة وضع لبنان تحت سلطة الإنتداب الفرنسي، والتي قابلها ماكرون نفسه بضحكة مستهزئة، إلى شيئ من الخيانة الوطنية العظمى و"حب الإستعمار،" رأى البعض الآخر فيها رد فعل عفوي، نتج بالضرورة عن آلام الفاجعة وفقدان الأمل بإمكانية التغيير. وهناك فريق ثالث، ينتمي معظمه إلى ذلك المعسكر اليساري الذي، للأسف، حفظ شيئا (الطبقية والطبقات الإجتماعية) وغابت عنه أشياء (الأيديولوجيا والجيو-سياسة والجيو-اقتصاد)، ذهب إلى حد اعتبار زيارة ماكرون تحالفا نيو-ليبراليا غاشما بين مصالح البورجوازيتين الفرنسية واللبنانية! المشكلة هنا ليست في رجاحة أو رداءة أي من الحجج التي يتسلح بها هؤلاء المتجادلون، إنما تكمن أساسا في ارتكابهم الجماعي لخطأ قراءة الحدث خارج سياقه التاريخي المباشر. فإذا ما جردنا سياق ما حصل مؤخرا في لبنان من كومة التحليلات والإستشرافات التي أسقطت عليه، سيتضح لنا بلا شك أن الفاجعة كانت، ولا تزال، من الفداحة بمكان بحيث دفعت الشعب اللبناني إلى اللجوء القصري إلى الآخر، أيا يكن، واستعطافه واستعطائه في ظل عجز دولتهم المطبق عن القيام بأبسط واجباتها الإغاثية. (أليس مؤلما، مثلا، اضطرار أهلنا المنكوبين إلى تنظيف ركام أحيائهم بأنفسهم بسبب تراخي المؤسسات الرسمية؟) فلعمري، لو أتتنا أنغيلا ميركل أو بوريس جونسون أو جاستن ترودو أو حتى فلايديمير بوتين، لكنا تصرفنا التصرف نفسه!


٣. بين ٢٠٢٠ و٢٠٠٥: تمخضت أقلام بعض المحللين السياسيين اللبنانيين عن مقارنات يبدو أنها طبخت على عجل بين تفجير بيروت عام ٢٠٠٥، والذي أودى بحياة رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، وتفجير المرفأ عام ٢٠٢٠، والذي كما هو بات معلوما دمر أجزاء واسعة من العاصمة، شرد مئات الآلاف من السكان وقتل (حتى الساعة) من المواطنين والمقيمين أكثر من ١٧٠. قد يقول قائل هنا إنه لا يحق لأحد أن يحجر على الفكر. ثم أن هذه المقارنات، وإن كانت مبنية على إمكانية تجاوز أسئلة السياق والحيثية المباشرة، ليست عبثية قط، بل هي تنطلق أساسا من قاعدة ارتباط الحوادث الوطنية الكبرى بعضها ببعض، أي اتصال التاريخ بالتاريخ، الماضي بالحاضر. هذا صحيح نسبيا، ولكنه، في نظري على الأقل، لا يجب أن يعفى جمهور المنخرطين في هكذا جدال من إثم التلطي وراء ضرورة التحليل و"قراءة المشهد" للتوسع فيما هو محسوم سلفا، منطقيا وأخلاقيا: إغتيال رئبس وزراء سابق شيئ واغتيال عاصمة بأمها وأبيها شيئ آخر! منذ أن تأسس لبنان الكبير عام ١٩٢٠، لم يمر على اللبنانيين فاجعة كهذه. هي أكبر وأخطر وأعمق دلالة من أن تختزل عبر مقارنات ميكانيكية ضحلة، اللهم إلا إن كان أولئك الذين يساوون بين الرابع عشر من شباط والرابع من آب يؤمنون بمقولة ستالين المعروفة: "موت شخص واحد مأساة. أما موت الملايين فمجرد إحصاء."


حتى لا ألبس رداء اليوتوبية الحالمة، لن أقول إنه من المعيب أن يهدر اللبنانيون وقتا ثمينا في جدالات بيزنطية لا تضر ولا تنفع بينما تمضي بيروت الذبيحة في لملمة جراحها، على وقع أنين البشر ودمار المنازل السكنية والمرافق الثقافية والأحياء التراثية العريقة. لن أقول ذلك لأنني بخلاف ما هو شائع لا أؤمن بأن للمصائب طاقات ذاتية، إيجابية أو سلبية، تفريقية أو توحيدية، بقدر ما أؤمن بأنها لحظات تمظهر موضوعي عنيف لصيرورة دواخل المرء العقلية والقلبية، حسنها وسيئها. فإن كان لا مفر من الصراخ السفسطائي العالي، من كوننا (ككل العرب) "ظاهرة صوتية،" على حد تعبير الروائي عبد الله القصيمي، حبذا لو تركز صراخنا على طرح الأسئلة الصعبة - من خطط؟ من نفذ؟ من سهل؟ من تواطأ؟ من تغاضى؟ لمصلحة من؟ ولأجل ماذا؟ - بدلا من الإنشغال الفرعي التافه، والذي غالبا ما يأتي بنبرة استعلائية، بمحاولة ضبط الحقل المعجمي للفاجعة وفرض قراءة أحادية ديكتاتورية على أسبابها ونتائجها ومآلاتها المستقبلية. والله أعلم. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد