مقدمة سوسيولوجية لفهم المجتمع المدني اللبناني الحديث


ما لم يُكشف عن "المجتمع المدني اللبناني" - النهار

أزمة اقتصادية ومالية خانقة، معطوفة على ثورة إصلاحية شبابية (أو ثقافية، كما يصفها المفكر عزمي بشارة) ومصيبة إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الجاري، ثالث أقوى انفجار في التاريخ الحديث بحسب مراكز أبحاث متخصصة، كل ذلك يضع ما يسمى بالمجتمع المدني اللبناني أمام تحديات جلل. 


الأكيد اليوم هو أن الأحزاب الست الكبرى الممسكة بالسلطة والقرار السياسي ومفاصل إدارة الدولة الغائبة المغيبة قد حسمت أمرها منذ لحظة مغادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان. فهي، كما بات معلوما لدى مراقبين محليين، تؤثر المماطلة والتأجيل في تشكيل "حكومة المهمة" العتيدة، كما سماها الفرنسيون، ريثما تتضح نتيجة الإنتخابات الأميركية المقبلة. رهانها هو أن تغييرا ما، دراماتيكيا أو براغماتيا، قد يطرأ على سياسة الولايات المتحدة الخارجية ("الضغط الأقصى" على إيران) والإصطفافات الجيو-سياسية والجيو-اقتصادية المرافقة لها. لذلك، قوى السلطة، وعلى رأسها حزب الله، غير مستعجلة. لا اعترافات بالإخفاق، لا جدية في التحقيق في جريمة الإهمال المتعمد في مرفأ بيروت، لا مراجعات للطرق الرجعية التي قوربت من خلالها الملفات الداخلية العالقة لسنين ولا تراجعات عن النموذج النيو-باتريمونيالي (التحاصصي) في الحكم وإدارة السياسة والإقتصاد والمجتمع. بل أفدح من ذلك، بعض رموزها ذهب مؤخرا إلى حد تهديد اللبنانيين، بالتورية أكثر منه بالمباشر، بالحرب الأهلية! 


لا شيئ إذن يرجى من أحزاب لبنان السائرة حتما نحو الإنقراض بحكم تبدل الأيام وتمخض صيرورتي التاريخ والواقع الحديثين عن ترتيبات وقواعد اشتباك مجتمعية جديدة أكثر عدالة وإنصافا. هي ليست على طريق الإفلاس، بل قد أفلست بالفعل، وما ثورة تشرين سوى المسمار الأول، لا الأخير، في نعشها. مسمار يرمز أكثر من أي شيئ آخر إلى قطيعة أنطولوجية قد طال انتظارها مع القديم، أي نظريات "الثابت" التكويني التي شكلت لبنان المعاصر، من قبيل القول بأن قوة لبنان تكمن في كونه "موزاييك" أقليات متعايشة سلميا. أما الجديد، "المتحول،" المطلوب، فهو تماما ما ترتئيه قوى المجتمع المدني اللبناني ("الشارع" كما يصفه البعض) من مشروع مواطنة حديثة راشدة، قائمة على اعتبارات الإنتماء الواحد إلى الأرض والهوية المواطنية التي تحددها حقوق الفرد وواجباته، لا ولاءاته الطائفية أو المذهبية أو الحزبية او المناطقية الضيقة. 


ولكن تحقيق هذه القطيعة، أو الإنتقال باللبنانيين من سجن التحزب التقليدوي إلى رحاب المواطنية، ليس بالأمر السهل على الإطلاق، لا نظريا ولا عملانيا. هناك شبه إجماع لدى قوى المجتمع المدني أن المعركة طويلة، أنه ليس بمستطاعها تحييد "الآخر" الطائفي (زعيما أو فردا عاديا)، بمعنى القضاء الكلي على آثار تطيفه السوسيو-تاريخية. هي مجمعة، أو هكذا يبدو لي أقله، على أن المنشود ليس إلغاء التواريخ والأدبيات التأسيسية والبنى الترميزية (دينية ودنيوية) المشغلة لمخاييل الطوائف اللبنانية المتصارعة بقدر ما هو إيجاد تاريخ اجتماعي مشترك (طبقي وسوسيو-ثقافي) وأدبيات وبنى ترميزية توحيدية تزاحم وتتقدم تدريجيا على تلك التأسيسية من حيث الحاجة الملحة إليها، بمعنى أنها، أي تلك الأدبيات والبنى الجديدة، عضوية لا كمالية. بلا شك، الهدف الجماعي موجود وواضح. إنما أخشى ما أخشاه أن أساليب تقديمه إلى الناس والمساعي التي بذلت وتبذل لتحقيقه دونها الكثير من الإلتباسات الكارثية التي تعتري أسس الخطاب المدني الراهن بكليته. أذكر منها هنا أربعة، على سبيل المثال لا الحصر:


  • ثنائية اليمين-اليسار: يظهر كم هائل من الدراسات البحثية في شتى المجالات أن هذه الثنائية قد تصدعت بفعل التحالفات السياسية (من أوستراليا إلى البرازيل) والنماذج الإقتصادية هجينية الطابع التي نشأت في أعقاب تسيد الفكرة النيو-ليبرالية بأنظمتها المعرفية المشهد العالمي. المجتمع المدني اللبناني يتجاهل هذه الحقيقة تماما، مفضلا الإمعان في تقسيمه لكل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي على مسطرة يمينية-يسارية بدلا من البحث عن أدوات تفكيكية اكثر تشابكية (على طريقة الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور) ومحاكاة للواقع.


  • ثنائية السياسي-المعيشي: الفصل بين الشأنين السياسي والمعيشي، أو بعبارة أخرى بين مقتضيات الإصلاح السياسي ومقتضيات الإصلاحين الإقتصادي والمالي، هو مغالطة مفهومية. تجمع الكثير من الأدبيات الفكرية المتوفرة في المجالين الأكاديمي والعام على أن السياسة السياسية والسياسة الإقتصادية للدولة صنوان لا ينفصلان. مع هذا، تصر بعض قوى المجتمع المدني اللبناني، عن قصد أو غير قصد، على الإنخراط في تضليل الرأي العام عبر تسويق مساق معرفي قوامه الحث على تأجيل البحث في أسئلة السياسة الصعبة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، ريثما تصطلح الأحوال المعيشية. 


  • الموقف من العسكريتاريا: هناك جهتان عسكريتان في لبنان لا تقف قوى المجتمع المدني موقفا موحدا منهما. الجهة الأولى هي المؤسسة العسكرية. ففي مقابل تحالفات كذلك الذي أعلن عنه مؤخرا بين "حركة مواطنات ومواطنون في دولة" وبعض الضباط من متقاعدي الجيش اللبناني، والذي أثار عن حق الكثير من الإستفهام والإستهجان، تجد تصميما ومواظبة عند فريق عريض من المدنيين، خاصة المستقلين منهم، على تحطيم تابوهات التأليه ورفض التعرض بالنقد، ولو كان بناء، لتوجهات وممارسات القيادة العسكرية. الجهة الثانية هي حزب الله، الذي يشكل الموقف من عسكريتاريته، محليا وإقليميا، مصدر تضاد عمودي صارخ بين فريقين لا ثالث لهما: فريق يؤمن، إما وظيفيا أو عن قناعة أيديولوجية (يسارية-إسلاموية)، بإمكانية تعايش الدولة المدنية المنشودة جنبا إلى جنب مع أهداف وأدوار وتحالفات هذا الحزب، وفريق يسلم تسليما مطلقا بانعدام هذه الإمكانية لأسباب موضوعية، ليس أقلها مساهمة الحزب منذ عام ٢٠٠٥ في إرساء قواعد النظام الرسمي الذي أودى بالبلاد إلى الإنهيار الشامل. في تقديري، من الصعب جدا أن يلتقي هذان الفريقان. بل أبعد من ذلك، أرى أن مسألة الموقف من حزب الله بالتحديد ستشكل مع الوقت المعيار الأساس وربما الأوحد لتقييم منطلقات الخطاب المدني وإسباغ أو عدم إسباغ الشرعية الشعبية عليه. 


  • الموقف من العلمنة: هناك أكثرية لبنانية وازنة، عابرة للطوائف، تتوجس من طروحات المدنية، محيلة إياها إلى العلمنة. لا شك أن بناء الدولة المدنية الحديثة، كما تظهر تجارب العديد من الأمم، يتطلب قدرا من العلمانية، ولكن ليس بالضرورة تلك العلمانية الإنسانوية الشاملة التي تهدف إلى تفويق المادي على الغيبي، أو التشريع الوضغي على التشريع الديني، بغية القضاء على الأخير. فبالإمكان، وهو المرغوب (أو ما يجب أن يكون مرغوبا)، الدعوة جهارا إلى علمانية إجرائية، أداتية، محدودة النطاق، تكون متسقة مع مثل التآلف والمؤاخاة التي تشتمل عليها العقائد الدينية وتدعو في الوقت نفسه إلى فصل الصالح العام عن القيم والإنتماءات والمصالح الخاصة للأفراد والجماعات. هذا الصنف من العلمنة ضروري لاجتراح وتثبيت مبادئ انتظام وعمل سياسي جديدة تحمي المجتمع وتسعى رويدا رويدا إلى الإرتقاء به. السؤال هنا: هل تلحظ قوى المجتمع المدني اللبناني العلاقة بين هذين المكونين، التمدن والتعلمن؟ وإذا ما افترضنا أنها تلحظ، لماذا إذن لا تجتهد أكثر لتوضيح رؤيتها للعلمنة درءا للإلتباس واصطياد خصومها في المياه العكرة (وهو ما يجري يوميا على مواقع التواصل الإجتماعي)؟ حتى الآن، لا يبدو لي أن هذه القوى مستعدة أو راغبة في خوض معركة إجلاء الموقف من العلمنة، ربما مخافة استعداء "الآخر" الطائفي. 


الترابط بين هذه الإلتباسات الأربع ترابط علائقي بامتياز، إذ أن تحديد الموقف من العلمنة، على سبيل المثال، قد يؤول إلى تحديد الموقف من العسكريتاريا ومعالجة ثنائيتي السياسي-المعيشي واليمين-اليسار، مع العلم بأن هذه الأخيرة قد تستعصي أكثر بالنظر إلى التباينات الشاسعة في الخلفيات الفكرية والأدوات التفكيكية التي يعمد المدنيون إلى استخدامها في تشخيص الواقع ومحاولة الإستجابة له. المهم على أية حال هو الإسراع في استدراك الإلتباسات والعمل على التصدي لها جديا، بشكل فعال وملموس، كي تتمكن قوى المجتمع المدني اللبناني من صوغ وتقديم خطاب متناسق يحوز على تأييد العامة ويسهم أيضا في شحذ طاقاتها الإستقطابية تحضيرا للإستحقاقات الكثيرة القادمة، كالإنتخابات النيابية (أتت مبكرة أو في موعدها الدستوري). 


باختصار، كنت قد ناشدت في وقت سابق، على صفحات هذه المدونة، قوى المجتمع المدني اللبناني بأن تنبذ بدعة اللاقيادة وتتوحد لإنتاج هياكل قيادية (لا قيادة واحدة) مسؤولة وقادرة على تطوير الإنتفاضة إلى برنامج وطني عملي جامع يقدم بديلا راديكاليا عن سلطة الأمر الواقع. ولكني غيرت رأيي. قناعتي اليوم هي أن الخطاب المدني برمته بحاجة إلى ترميم. البعض بدأ يسومه بالإفلاس. لذلك، على أولئك المدنيين الذين صدعوا الرؤوس بدعواتهم المتكررة للأحزاب الحاكمة إلى "الإعتراف بالفشل" و"الإقرار بالواقع ومعرفته" أن يعترفوا هم أنفسهم بالفشل ويسألوا عن الأسباب ومكامن الخلل. عسى أن يكون فشلا مرحليا فقط. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد