الدولة اللبنانية.. خواطر في زمن المئوية والإنهيار


طالعتنا مؤخرا جريدة "النهار" اللبنانية بملحق جديد تحت عنوان "إنهيار." العنوان مثير بقدر ما هو طبيعاني، أي يعمد إلى تصوير الواقع موضوعيا، كما هو. إثارته لا تكمن في قدرته على تكثيف معاني التراجيديا الوطنية في كلمة واحدة فحسب، بل تتعدى ذلك إلى كونه إثارة أستفزازية للعقل العلمي الشغوف بالبحث عن الحقائق. فالتفكير في الإنهيار يحيل إلى أنطولوجيا الإنهيار، إلى أسئلة التكوين والتطور. من هذه الأسئلة: كيف تقوم وتنهار الدول؟


إن الأدبيات البحثية العلمية المتوفرة للإجابة عن هذا السؤال المحوري في حقلي العلوم السياسية والعلوم الإجتماعية والإنسانية تكاد لا تعد ولا تحصى. لذلك، ليس هدفي في هذه العجالة تقديم سردية خلاصات بحثية حول نشأة الدول والتحديات التي تواجهها. بل إن هدفي ينحصر في تقديم إضاءتين أوليتين على نظرية الدولة، يمكن البناء عليها لتخريج إطارات مفهومية لمباحث مستقبلية. الإضاءتان مستلهمتان بالأساس من كتاب صدر عام ٢٠١٦ للعالم السياسي البريطاني بوب جيسب بعنوان: "الدولة: الماضي، الحاضر والمستقبل." سأسوقهما أدناه باقتضاب، مستشهدا لغرض التدليل بواقع الدولة اللبنانية المنهار. 


الإضاءة الأولى تخص تعريف الدولة. يؤكد جيسب أن التعريف الذي قدمه عالم الإجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر للدولة بوصفها جماعة بشرية محددة جغرافيا، تنبثق عنها كتلة حاكمة تحتكر القوة وتدعي القدرة على تنظيم شؤون الناس الحياتية والعملية بالنظر إلى شرعيتها التاريخية (تغلبية، كأن تكون نتيجة تحقيق انتصار عسكري، أو تمثيلية، كأن تكون نتيجة انتخابات برلمانية، أو توافقية، كأن تكون نتيجة تحالفات سياسية ظرفية أو متجددة)، يبقى التعريف الأكثر شيوعا وقابلية للتوظيف في التنظير لمفهوم الدولة المعاصرة ومحاولة تشخيص أشكالها وسياقاتها ومسارات تقدمها، تعثرها أو فشلها. بالإضافة إلى ذلك، يحاجج جيسب أن مكونات الدولة الثلاث في المقاربة الفيبرية، أي الأرض (السيادة) والنظام (الجهاز الإداري) والشعب (المجموعة السكانية)، لا تزال تشكل مفاهيم ناجزة لبحث نشأة الدولة، أوضاعها الراهنة، علاقاتها، أدوارها (محليا وإقليميا وعالميا) والشروط اللازمة لتحقق واستمرارية هذه الأدوار. 


بناء عليه، سيتبين لنا إذا ما تبنينا منظارا فيبريا أن الدولة اللبنانية قد فشلت وانهارت تماما، دون أدنى إمكانية للتقويم أو إعادة الإعمار. هذا المصير السوداوي ليس فقط نتيجة الطعن شبه اليومي في شرعية كتلتها الحاكمة توافقيا على كل المستويات (سياسيا واقتصاديا وماليا وقضائيا)، بل أيضا نتيجة التصدعات البنيوية المتراكمة التي قوضت تماسك مكوناتها: سيادتها على أراضيها ومنطقتها البحرية منتهكة أو مهددة بالإنتهاك، نظامها القائم على التحاصص الطائفي والمذهبي فاسد (بدليل الإهمال الجرمي - الكرزة الأخيرة فوق كعكة الفساد - الذي أدى إلى فاجعة الرابع من آب) وشعبها متنافر متناحر، يجمع على أنها دولة مقصرة وينبغي خلعها ولكنه في الوقت نفسه يستعذب (أو أقله يقف عاجزا أمام) تهويلات البعض بالحرب الأهلية تارة وبالفدرلة تارة أخرى. 


أما الإضاءة الثانية، والأهم، فهي تخص مفهوم الدولة بوصفها فكرة. بحسب جيسب، ينبغي على أي بحث جاد في شؤون الدولة المعاصرة أن يذهب إلى ما هو أبعد من ثلاثية الأرض-النظام-الشعب التي، كما أسلفنا، تقوم عليها المقاربة الفيبرية التقليدية. ذلك أن الدولة هي أكثر من أي شيئ آخر بمثابة تجسيد حي لفكرة مهيمنة أو قل مجموعة من الأفكار المتناسقة المهيمنة (بقوة الأمر الواقع وليس بفعل عوامل ذاتية تختص بها هذه الأفكار). بمعنى آخر، إن تفرد الدولة في اختراعها أو تبنيها الجماعي، بأغلبية مكوناتها، لفكرة (أو أيديولوجيا تأسيسية) ما حول العالم، الحياة، العمل، الفرد و/أو المجتمع هو أحد أهم العوامل السببية الضامنة لديمومتها. فالدولة قد تكون كبيرة أو صغيرة من حيث المساحة، ملكية أو جمهورية، ديمقراطية أو تسلطية، ذات  لون اجتماعي واحد أو متعددة الأعراق والأجناس، ولكن في نهاية الأمر وجودها من عدمه مرتبط بمدى قوة أو هشاشة الفكرة التي تمثلها. 


من هنا نفهم، على سبيل المثال، لماذا يقسم بعض علماء السياسة الدول المعاصرة بين "دولة-فكرة" و"دولة-وظيفة." فبالرغم من المشاكل العديدة والتناقضات الداخلية التي تشوب نماذجها المتباينة، تبقى دول مثل الصين، صاحبة فكرة الرأسمالية الإشتراكية، وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، صاحبتي فكرة الليبرالية الديمقراطية، دولا متماسكة. حتى باكستان وإسرائيل يمكن تصنيفهما في خانة الدولة-الفكرة المتمتعة بمقومات التماسك. (الأولى تجسيد لفكرة "وطن قومي للمسلمين" والثانية تجسيد لفكرة "وطن قومي لليهود.") ومما هو جدير بالذكر بما يتعلق بمنطقتنا العربية، تحديدا في الخليج، أن التحول الدراماتيكي الذي شهدته بعض الأنظمة نحو الأنسنة والمتبنيات الفكرية والمنهجية للإنسانوية (وما رافق ذلك مؤخرا من تحول جيو-استراتيجي خطير، جرى تسويغه إنسانويا أيضا) يمكن فهمه في سياق الرغبة الجامحة المتولدة حديثا، لأسباب شتى لا متسع لذكرها هنا، بتقمص فكرة ما تسمح لها بالإنتقال سريعا من كونها دولة-وظيفة إلى دولة-فكرة. الثابت هو أن هاجسها هو التماسك، ببعده الأمني حصرا، كيفما أتى وأيا كانت التضحيات. 


أما لبنان، فإن دولته لم تكن في يوم من الأيام منعقدة على فكرة جامعة. قد يستغرب البعض هذا القول، مدفوعين بالظن بأن تأسس لبنان على قاعدة الإستثناء الماروني، أو "الوطن القومي المسيحي،" قد جعل منه دولة-فكرة بامتياز. كلا، إذ إن هذا الإستثناء الفرنسي الذي طبع الكيان منذ اللحظة الأولى بطبعة التحاصص الطائفي والمذهبي لم يكن إلا تدبيرا كولوناليا كسولا أدى مما أدى إليه إلى حربين أهليتين في أقل من عقدين. الإستنتاج هنا بسيط للغاية، وإن كان عسير الهضم: لأن أكثرية اللبنانيين لا تنتمي إلى الطائفة المارونية، لا يمكن اعتبار الإستثناء الماروني التاريخي الفكرة المتجسدة بلبنان، بحدوده الحالية، وطنا ودولة. هذا من جانب. أما من جانب آخر، فإن مقولات "ميثاقية" من قبيل "العيش المشترك" و"لا غالب ولا مغلوب" و"لا شرق ولا غرب" لا تعدو كونها سوى مقولات استهلاكية تصلح فقط لتلميع صورة لبنان في الأذهان ولدى الخارج. هنا أيضا الإستنتاج بسيط: لم تفلح لا الإستثنائية الطائفية الإختزالية (١٩٢٠-١٩٩٠) ولا الإستثنائية الإختزانية الشعاراتية (١٩٩٠-٢٠٢٠)، والتي بموجبها أضحى لبنان وطنا غير مسبوق في التاريخ، يتقدم ويتفوق تلقائيا على غيره من الأوطان العربية (وحتى، عند البعض، على ما عداه من أوطان العالم كلها)، في أن تشكل فكرة أو علة وجود وديمومة لبنان. في الخلاصة، إن ما هوى بهذا الوطن إلى قعر الدول الفاشلة المنهارة ليس الإنتهاكات المتكررة لسيادته وفساد كتلته الحاكمة وتنازعيات شعبه (بل شعوبه) التي لا تنتهي فحسب، بل كذلك العجز عن أن يكون تجسيدا لشيئ، قيمة أو هوية أو رؤية أو تراث أو تقليد أو تحديث، يجمع بالتي هي أحسن ولا يفرق. 


ما الحل إذا، وقد شاخ لبنان؟ هل كتب عليه في مئويته أن يظل، كما وصفه هنري كيسينجر، "قطعة غيار،" أي وكيلا يقدم خدمات بالمجان للداخل الناهب والخارج المتآمر الطامع؟ من ناحية، هناك من ينادي بالحياد النشط سبيلا إلى تخليصه من أزماته المستفحلة. ومن ناحية أخرى، هناك ثورة ثقافية-إصلاحية لا تزال حية، وهي تدعو إلى إقامة الدولة المدنية، القادرة، المؤتمنة على حماية المجتمع وإرساء قيم المواطنة والشفافية والمحاسبة والعدالة الإجتماعية. أوافق جيسب في قوله إن تنازعية المدني-السياسي الموجودة في أغلب الدول المعاصرة اليوم ستتطور وتكتسب مع الوقت طاقات تقريرية، بمعنى أنها ستعيد أو أقله تشارك في إعادة رسم الواقع. فهل يكون هذا الخليط المتلون من انتفاضة شعبية معطوفة على طروحات سياسية كالحياد المقدمة المطلوبة لولادة فكرة وطن؟ القرن الأول من عمر لبنان كان قرن الدولة-الوظيفة. على القرن الثاني أن يكون قرن الدولة-الفكرة. 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد