نحو سوسيولوجيا المسلم في أوروبا

 


كلما توترت العلاقة بين الرأي العام الإسلامي والخطاب الغربي الليبرالي أحاول قدر الإمكان الإبتعاد عن صخب الظاهر. لذلك، ما يحدث اليوم على ضفتي ردود الفعل على جريمة قتل المدرس الفرنسي الذي عرض صورا كاريكاتيرية تطعن في شخص الرسول الأكرم لا يعنيني البتة. المسألة عندي أعقد بكثير.   


لأفهم أكثر، ألجأ إلى السوسيولوجيا. وكم نحن اليوم، في الغرب كما في الشرق، بحاجة إلى سوسيولوجيا قادرة على تأطير وتفصيل العلاقة بين الإسلام المعاصر، بغنى تراثه وتعددية جماعاته وسياقاته، وبين الغرب المعاصر، على مقادير الغنى والتعددية ذاتها. إن وجدت، باستطاعة هكذا سوسيولوجيا أن تؤسس لنظريات أو أقله عدات شغل تنظيرية تتيح لنا الإسهام أكثر، بطرق علمية، في تشخيص واقع الصلة أو العلاقة اليوم بين هذين العالمين الكبيرين. ما ينقصنا باختصار هو سوسيولوجيا المسلم في أوروبا. 


أقول "المسلم" وليس "المواطن المسلم" لأن ليس كل المسلمين المتواجدين في أوروبا والغرب عموما مواطنين بالمعنى القانوني للكلمة. فبالإضافة إلى المهاجرين والمبعدين وطالبي اللجوء، هناك من يرتحل إلى الدول الأوروبية طلبا للعلم أو الوظيفة أو السياحة. كل هؤلاء، بما يجلبونه إلى القارة العجوز من عادات وتقاليد وأنظمة قيمية ومعيارية وأنماط تفكير وعيش، وبما تجلبه القارة إليهم بدورها من مؤثرات قد تطال تكوينهم (لا سيما العقيدي)، يستحقون منا، نحن علماء الإجتماع، الإستماع إليهم والنظر بشكل علمي إلى تجاربهم. (للأمانة، تسمية "سوسيولوجيا المسلم في أوروبا" مستلهمة من عنوان كتاب للعلامة اللبناني الراحل المستشار الشيخ فيصل المولوي، هو: "المسلم مواطنا في أوروبا." الفرق بين طرحي ومبحث فضيلته هو أن الأخير يتناول المسلم  بوصفه مسلما. أما أنا فأدعو إلى تناوله من منطلقات علمية إنسانية وإجتماعية، بوصفه كائنا اجتماعيا. المقاربتان، على أية حال، متداخلتان لا متعارضتان.)


لست متيقنا بعد من الخيوط العريضة التي قد تنسج لإنشاء وإنفاذ هكذا سوسيولوجيا. ولكن لا بد من بداية: سأستفيد هنا من الحدث الفرنسي المستجد وما تبعه من نقاشات كي أطرح ثلاث قضايا وتساؤلات مبدئية، أتوخى من خلالها تقديم مثل عن كيفية المعالجة العلمية السوسيولوجية للواقع.  


القضية الأولى: الفشل في إدارة التنوع: بالرغم من إرث مدنية علمانية قائم على الحرية والمساواة والمؤاخاة وتطبيق القوانين الوضعية بالعدل على جميع أطياف المجتمع، تشترك الجمهورية الفرنسية بنسختها المعاصرة مع غيرها من الجمهوريات (والممالك) في أوروبا في فشل المجهودات المبذولة لاستيعاب ودمج "الآخر" على الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وحتى الإنسانية كافة. هناك العديد من الأسباب، ولكن يأتي في مقدمتها صعوبة التوفيق بين طموحات علمانية إنسانوية تسعى إلى إقامة "مجتمع فاضل" (ليبرالي الهوى) يهتدي بمسلمات كونية اختزالية (لاغية للخصوصيات السياقية والذاكرات والتخييلات الجمعية)، من جهة، وبين طموحات نيو-كولونيالية متغطرسة، ليس أدل عليها من شعبوية اليمين المحافظ (وبعض اليسار) في الداخل وتوسعية الدولة الإقتصادية في الخارج (أفريقيا تحديدا)، من جهة أخرى. كسابقاتها، الحكومة الفرنسية الحالية لا تريد أن تعترف أن الصهر الجبري في العلمانية لا يتعارض مع مقاصد العلمانية وحسب، بل ويفضي إلى تفش خطير لرؤى ومقاربات ثقافوية وظواهر عنفية (مادية ومعنوية) تتنافى ومتطلبات الإدارة الراشدة للتنوع. 


القضية الثانية: أزمة العلاقة بين المدنس والمقدس: بالرغم من محاولات عدد لا بأس به من المدراس الفكرية، لا تزال بعض الشعوب والجماعات التي تدين بهوية إسلامية تتأرجح بين العقليات والنقليات، الوضعيات "المدنسة" (من حيث رجوعها إلى ارتكابات البشر) والتعاليم الإلهية "المقدسة" (من حيث رجوعها إلى النص المقدس، القرآن الكريم، ونصوص أخرى ذات وظائف تأصيلية، كالحديث). وعلى عكس الشائع، من الخطأ اعتبار هذا التأرجح قضية عقيدية حصرا، من اختصاص الفقهاء الثقات أو علماء الكلام أو منظري التأزم بين الموروث والحداثة، كالشاعر السوري أدونيس. فبالنسبة لي، إن لثنائية المدنس-المقدس بعدا سوسيولوجيا يتمثل في إمكانية إحالتها، مفاهيميا، إلى ثنائية فرد-جماعة أو ذات-بنية. للأسف الشديد، كما في فرنسا، كذلك في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، يفتقر بعض المسلمين، وهم أكثرية، إلى وجود نخبة فكرية مسؤولة تتولى مهمة تربوية بامتياز، ألا وهي وضع اللغات التخصصية الكفيلة بتمكين عامة الناس من مخاطبة البنية التراثية المعقدة للإيمان والإعتقاد الدينيين، بمعنى العمد إلى استنطاقها للوصول إلى استجابات تتناسب والواقع العصري. وكي لا أتهم بتجاهل ما تحقق حتى الآن من إسهامات، سأستبق بالقول إن البعض تمكن بالفعل من تخريج لغة تخصصية اصطلح على تسميتها بتاريخانية النص (في إشارة إلى النص المقدس). ممتاز. ولكن أين؟ في الجامعات ومراكز الأبحاث العلمية؟ لماذا بقيت لغة تخصصية نخبوية ولم تتحول، بيداغوجيا، إلى لغة محكية؟ لماذا غاب من باستطاعتهم تقديمها وشرحها للأجيال الناشئة؟ كل ثنائية بحاجة إلى لغة تفككها. إلى حين تأمين واحدة، لا يتوقعن أحدكم من الشباب المسلم أن يكسر طوق ثنائية المدنس-المقدس بأعجوبة (أو بمرور الزمن).


القضية الثالثة والأخيرة: الجسد: إن من علامات تقدم أو تراجع الأمم هو مدى قربها أو بعدها عن التصفية الجسدية معيارا لحل المسائل الخلافية. الغرب، بلا أدنى شك، قطع شوطا كبيرا في هذا الصدد بينما تزداد كافة أشكال الإعتقال والإغتيال والتعذيب والتهديد والتعنيف الجسدي في بلدان العالم الجنوبي ("العالمثالثية")، حيث تتركز الغالبية العظمى من الشعوب المسلمة. نعم، ينبغي الإقرار بأن الجسد في بلداننا لا يزال يشكل نقطة ارتكاز. الحل والربط ينعقدان عليه. به وحده، إبقاء أو إفناء، تنقية أو تدجينا، استيعابا أو إقصاء، تظهيرا أو ترميزا، تعالج الشؤون والشجون. بعبارة واحدة، يمكننا القول، مسترجعين ثنائية ديكارت (الجسد-العقل)، إن الإنتقام بالجسد من الجسد يبقى الطريقة المفضلة، الأكثر اختصارا للوقت والإنتظارات العقلية التي قد تستلزمها طرق أخرى (تفنيد الحجة بالحجة، على سبيل المثال)، لدى عدد كبير من مكونات الإجتماع الإسلامي، سواء في أوروبا أو في المجتمعات الإسلامية الأم. ما يعزز قولبتي لمفهوم مركزية الجسد في الإسلام المعاصر على هذا النحو هو تفصيل مهم للغاية يتعلق بالتاريخ الشخصي للشاب الذي ارتكب تلك الجريمة المروعة، الحدث الذي ألهم هذا المقال، في فرنسا. فبحسب السلطات الفرنسية، لم يكن القاتل عضوا في تنظيم إسلامي متشدد. لم يكن مثقفا. لم يكن ممن يدأبون، ولو في سن صغيرة، على طرق أبواب الغرف المعرفي بشتى صنوفه. لم يكن له رفاق يجادلهم ويجادلونه، يتفق معهم حينا ويختلف حينا أخرى، يعيرهم ما لذ وطاب من كتب السيرة والحديث والفقه والتاريخ ويعيرونه. هو، إذا، قد عاش ومات على جهالة الجسد. كان حظه سيئا. لم يجد لا الأشخاص المناسبين ولا الظروف المناسبة والإمكانيات لاقتلاع نفسه من ظلمة الجسد فاستسلم له. ما أحاول قوله، سوسيولوجيا، هو أن الجسد كان أداته التواصلية الوحيدة. وهل أعطي غيرها؟ عجبي أن فرنسا - أتجاهل هنا عمدا الإشارة إلى الدور المحوري الذي ينبغي على الأنظمة الرسمية العربية والإسلامية القيام به، إذ لا حياة لمن تنادي - تقصر عن إدراك ذلك وهي من صدعت وتصدع رؤوسنا بقضايا حرية الجسد والتعبير كلما مشت امرأة محجبة على شاطئ أو تقلدت منصبا رسميا رفيعا! 


هذا غيض من فيض بالطبع. لا مجال هنا لذكر كل ما عندي. لم أتحدث، على سبيل المثال، عن ثنائية الأممية الإسلامية والدولة-الأمة الحديثة التي لا تقل خطورة وقابلية للإشتعال عن ثنائية المدنس-المقدس. وبالمناسبة، أريد أن ألفت إلى أن القاسم المشترك الأكبر الذي قد يغيب عن المراقب بين الرئيس الفرنسي من جهة والغاضبين منه من جهة أخرى هو شمولية الخطاب المتوجه إلى العالم الإسلامي بكليته، وكأن مسلمي فرنسا، وهم الأدرى بشعابها، عاجزون عن الدفاع عن الصلات الدينية-الوطنية التي عملوا جاهدين طوال عقود لتوثيقها. الخلاصة المفيدة هي أنه قد آن الأوان للتفكير الجدي في كيفية التصدي العلمي المدروس والبناء للإسلاموفوبيا الأوروبية والغربية عموما. لن ينفعنا الصراخ. لن ينفعنا أن نكون ظاهرة صوتية. من هنا دعوتي إلى سوسيولوجيا المسلم في أوروبا. أناشد زملائي في علم الإجتماع وباقي العلوم الإنسانية والإجتماعية أن يتلقفوها بسعة صدر ورحابة عقل الباحث دائما أبدا عن الحقيقة. 








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد