المسيحية السياسية: مقدمة موجزة لمبحث لا بد منه
الكتابات حول ما يصطلح عليه نظريا بالإسلاموية أو التطبيقات الإشكالية للحركية الإسلامية السياسية تكاد لا تعد ولا تحصى. كل يوم، ومع كل فاجعة جديدة، يطلع علينا من يتوسل عن حق أو باطل (كل حسب نيته) استقراء واقع الأمة الإسلامية، لا لإفادتها وإعانتها على النهوض، بل لتعييرها بما وصلت إليه من "انحطاط وهزيمة" مفترضتين وتحميلها مسؤوليات جسام، لا ناقة ولا جمل لها فيها، فيما يسمى بحوار الحضارات. وكأن الكون كله يدور حول المسلمين والإسلام والإسلام السياسي!
بئس الإختزاليات النظرية. بئس قبحها وجرأتها على الناس. أليس من المعيب فكريا وأخلاقيا مجافاة العلوم الإنسانية والإجتماعية المطلوبة لفهم واقعنا والإستعاضة عنها بخطابات كراهية جوفاء ودعوات فردية وجماعية لوضع المسلمين (من أقصى إندونيسيا إلى آخر ولاية في كندا) في قفص الإتهام؟ أين ذهبت البنى والتراكيب الإجتماعية؟ هل من مجيب يعيد الرشاد إلى نقاشات الإسلام السياسي، تعديلا وتصويبا ونقلا للجدل المستمر من دائرة سؤال المسؤوليات الفردية والجماعية إلى دائرة سؤال البنى المجتمعية والتراكيب الثقافية والتلاقح المفاهيمي بين الجغرافي والسياسي؟
وعلى قاعدة أن الشيئ بالشيئ (يجب أن) يذكر، أين الحديث عن المسيحاويات؟ لماذا تتهربون أيها المفكرون الغربيون ومن يقلدكم من العرب والمسلمين من بسط تعريفات وتشخيصات ومعاينات وشروحات نظرية وإمبيريقية لها كما فعلتم وتفعلون مع الإسلامويات؟ لماذا تنوجد مراكز الأبحاث العلمية المتخصصة في دراسة كل ما يعتبر إسلاموي - من حمل السلاح ضد المدنيين العزل في عواصم أوروبا إلى الديناميات الجندرية الخاصة بثقافات التدريس والتلقي في الكتاتيب القرآنية في باكستان! - وتغيب غيابا تاما عندما يتعلق الأمر بالمسيحاوي أو ما يمكن، بالمماثلة، اعتباره تطبيقا إشكاليا للمسيحية السياسية (المنافية جوهرا للتنازعية بين الناسوت واللاهوت، الذات الإلهية والذات القيصرية)؟ لماذا تنبري أدواتكم التحليلية والتفكيكية والتوثيقية بكل انسيابية ولين لغرض توصيف "الإسلامي" - شخصيته، هندامه، مأكله ومشربه، علاقاته الإجتماعية، فهمه للعاطفة والجنس، بيئته، أصله ونسله وأخيرا ولا آخرا مفهومه للأمة وتمييزه بينها وبين الدولة-الأمة - وتعجز حتى عن ملاحظة، ناهيك عن توصيف، المسيحاوي؟
ثم أليس هناك أدلة ملموسة على وجود مسيحاويات تاريخية؟ لماذا، على سبيل المثال، يصح وصف الصحوات الإسلامية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بالإسلاموية ولا يصح وصف الصحوات اليمينية المسيحية التي، للمفارقة، غزت لبنان في الفترة نفسها بالمسيحاوية؟ أليس صحيحا أنه بينما طغت المعتقدات اليسارية والنضالية الإجتماعية على فكر الحركة الوطنية اللبنانية وقتذاك، زمن الحرب الأهلية، غلب على عدوتها، الجبهة الوطنية، فكر أقلوي-انعزالي مشبع بأيديولوجيا دينية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها متطرفة من حيث الشكل والمضمون، إن لم يكن إبادية؟ ثم ألا يعني ذلك مما يعنيه إمكانية المحاججة بأن المسيحاويات، أقله في لبنان، سابقة على الإسلامويات؟ هذا وإن أردنا أن نعرج على الراهن اللبناني فحدث ولا حرج. الأمثلة كثيرة، من مسيحاوية "السياديين،" الذين يجمعون جمعا هجينيا ما أنزل الله به من سلطان بين المناداة بالوحدة الوطنية والمقاومة السلمية لما يعرف بمحور "المقاومة والممانعة" من ناحية وبين "قلق وجودي" على المسيحيين ومستقبلهم في لبنان من ناحية أخرى، إلى مسيحاوية المشرقيين الجدد، الذين يريدون إقناع الرأي العام بأن فرض العقوبات المالية على قياداتهم بتهمة الفساد من قبل الولايات المتحدة الأميركية يشكل "استهدافا للمسيحيين." وكأني بهم - على طريقة أولئك، أصحاب العقول الكسولة، الذين ألبسوا باراك أوباما لباس "الإخوان" - يعتقدون أن الأخيرة دولة خلافة راشدة، شغلها الشاغل هو التصدي لغطرسات الروم العسكرية والسياسية! عجبي.
وكذلك الأمر في الراهن الأعم الأشمل،على صعيد العالم. فماذا عن سفاح نيوزيلندا (آذار ٢٠١٩) ومسيحاويته الفاقعة، المطبوعة سفرا سفرا على سلاحه، الموشومة صلبانا على جسده؟ وماذا عن سفاح النرويج (أيلول ٢٠١١) ومسيحاويته الدموية التي لم ترحم حتى أبناء جلدته؟ في الحالتين نمطية مسيحاوية تنم عن توافقية عضوية بين التطرفين الديني والعرقي. ثم ماذا عن مسيحاويات الشعبوية السياسية والشعبوية الحمائية الإقتصادية التي أفرزتها ظواهر فشل المؤسسات الديمقراطية والبيروقراطيات الإدارية في الغرب، من بريكست في بريطانيا إلى صعود نجم الزعيمة السياسية المتطرفة ماري لوبن في فرنسا إلى مجيئ ترمب في الولايات المتحدة؟ ماذا عن مسيحاوية الأخير بالتحديد، حيث يختلط الديني والعرقي بالشوفيني والشوفيني بالنيو-ليبرالي؟ في المحصلة، وهنا بيت القصيد، لماذا، على غرار المقاربات الفكرية والمنهجيات المعتمدة في حقول دراسات "التطرف الإسلاموي،" لا يعمد المحللون والباحثون إلى الربط الميكانيكي بين التأزم الهوياتي الديني في المسيحية والتأزم الأمني، سواء في الداخل أو على مستوى أكبر؟ لماذا من المسموح والممكن عقلا وعلما ولغة القول إن الإسلام "يعيش في أزمة،" كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي منذ أسابيع، وليس من المسموح والممكن القول في المقابل إن المسيحية تعيش في أزمة؟!
بناء على ما تقدم، هل مرادي هو الدعوة إلى سوسيولوجيا حول المسيحاوية - نشأتها وأسبابها وظروف صعودها وهبوطها وقواعدها وضحاياها؟ كلا. عندي، كلاهما، الإسلاموية والمسيحاوية، صنيعتا نزعة تأصيلية جوهرانية في الفكر المنهجي تميل إلى التشتيت على الذهن لا تنويره. لا أشك للحظة بأنه، أي هذا النوع من الإصطلاح المفاهيمي، تركيب تبسيطي يراد به تسهيل عملية إنتاج المعارف الأكاديمية وغير الأكاديمية اللازمة لوضع السياسات العامة وتحديد الكيفية التي ينبغي من خلالها مخاطبة "الآخر." (طبعا، للأسف، "الآخر" اليوم هو الآخر الإسلاموي فقط. لا يزال البحث جار عن "الآخر" المسيحاوي. ولم نتطرق بعد إلى "الآخر" اليهوديوي!) لذا، الدعوة هي للجميع، خبراء ومحللين وأكاديميين، للبحث عن لغة علمية مشتركة، لغة تسعى إلى إماطة اللثام عن الأسباب الحقيقية (السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية) الكامنة وراء أيديولوجيات العنف، بدلا من التنطح وراء مصطلحات خاوية المعنى. هذا هو المخرج الوحيد. والله أعلم.
تعليقات
إرسال تعليق