فتور العنصر المدني: وقفة عند التنظير النيو-كلاسيكي للدولة-الأمة العربية الحديثة
التدقيقُ في الخطاب العربي المعاصر حول موقع الدولة-الأمة العربية الحديثة ووظائفها يكشف عن فتورٍ مقلق للعنصر المدني، خاصة عند أولئك الذين يطلقون على أنفسهم صفات تعتريها الشبهات وينقصها التعريفُ المُحكَم، من قبيل "محلل سياسي" و"خبير اقتصادي" و"خبير في الشؤون الإستراتيجية." بل أزعم أنه حتى في الأدبيات الأكاديمية البحثية، قديمها وحديثها، يمكن لحظ هذا الفتور. فما مردّه إذا؟ وما مؤدّاه العملي إذا ما تمت المغالاة فيه؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تستوجب تفنيدا للغلبة الميكانيكية للمنطق النيو-كلاسيكي على الأسس والآليات المُتَّبعة في التنظير.
غالبا ما تُعرَّف النيو-كلاسيكية (neoclassical theory) في مجال علم الإجتماع السياسي بوصفها مدرسة فكرية واقعية تدين ببراديغم بنيوي-تركيبي يحيل الدولة-الأمة برمتها إلى ظاهرة انتظام هرمي (hierarchical). فعلى سبيل المثال، يحاجج فيبر (1946)، أحد أهم روّاد علم الإجتماع السياسي في القرن العشرين، بأن الدولة-الأمة الحديثة تتكون من ثلاثة عناصر: الأرض (أو الرقعة الجغرافية ذات الحدود المرسومة والمعترف بها دوليا)، الشعب (أو الكتلة البشرية المتوحدة عبر تماثل طبيعي – مثال: أمة العرق الواحد أو الدين الواحد – أو تماثل وضعي – مثال: جماعات متفرقة تنشئ نظاما سياسيا تشاركيا يسبغ عليها صفة الأمة) والسيادة (أو الإنتشار على كامل الأرض واحتكار حق ووسائل اللجوء إلى العنف والقدرة على تشكيل حكومات وإقامة مؤسسات تتمتع بشرعية وازنة تخوّلها القيام بمهام الحكم والإدارة، أمنيا وسياسيا واقتصاديا وعلى صعيد الصراعات الإجتماعية و/أو الثقافية التي قد تنشأ بين جماعات الشعب، على اختلاف انتماءاته الهوياتية).
الخلاصات التي تخرج بها الأبحاث العلمية المستندة إلى هذه المدرسة تركز على مفهوم قوة الدولة المباشرة بكل أشكالها الصلبة والناعمة (الدبلوماسية) ومسارات تطورها التاريخي ومدى القدرة على احتكارها وتكييفها وتوظيفها (حسب الحجم – دولة كبرى، صغيرة أو صغرى) للتصدي للتحديات الداخلية (Nye, 2004). بالنسبة للباحث أو المراقب النيو-كلاسيكي، البحث في القوة وعلاقات القوة وتمظهراتها وتشابكاتها العناصرية – على سبيل المثال، الأرض عنصر دَولَتي يتمظهر في بعض الحالات على شكل خامات، كالنفط، أو معادن ثمينة، كالذهب والألماس – هو دليلُ موضوعيةٍ علمية ضرورية ومطلوبة، تهدف فيما تهدف إليه إلى تدميغ الحجج والبراهين بالكليانية (holisticity) وقدرة متقدّمة على الشرح، وإن كان ثمن ذلك الوقوع في الإختزالية أو حتى في بعض الأحيان شيئ من الجوهرانية.
لذلك، نجد أن المدرسة التقليدية النيو-كلاسيكية لا تستلطف أيَّ لحظٍ للعنصر المدني وقوة وتأثير القوى المدنية من قطاعية وغير قطاعية في بلورة شكل الدولة-الأمة الحديثة، ناهيك عن تاريخها ومسارات التحول والتغيير فيها. فالفكرة المدنية هي فكرة سياقية بالدرجة الأولى. المقصودُ هنا هو أنها فكرةٌ تهدف إلى الجعل من المرغوب فيه، إن لم يكن من الضروري، استنطاق الواقع المجتمعي سياقيا، أي "من تحت" أو "ما-بين-بين" (from beneath and from within) وليس بنيويا-تركيبيا فحسب، أي "من فوق" (from above). هذا مع ما يستتبعه هذا الإستنطاق من محاولات تأصيل نظري لمركزية الحياة اليومية (انظر Apple, 1989) في إطار السعي إلى فهم الأسس والأنماط التي يلجأ من خلالها الأفراد والجماعات إلى ممارسة نشاطاتهم كافة، من عيش وتأمّل وتفكّر وتدبّر وتواصل وتثاقف وتنازع، بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوأ، وبأشكال عديدة، قد تكون إما داخِلَة في صلب علاقات القوة السائدة في النظام السياسي المُمَثِّل للدولة-الأمة أو خارجة عنها. فإن كان صحيحا ما يذهب إليه البعض من اعتبار أن لا ثنائية بين الفكرتين المدنية والسلطوية، بين المجتمع المدني والدولة-الأمة، إلا أن ذلك لا يلغي وجود تمايزات حقيقية بين ما هو مدني من ناحية، سواء مدني-نُخَبِي (الأنتلجنسيا المجتمعية) أو مدني-شعبي (الشعب بوصفه الحاضنة الطبيعية للفكرة المدنية)، وما هو سلطوي من ناحية أخرى، سواء على صعيد مؤسسات الدولة الرسمية (السلطة المُعلَنة) أو على صعيد قوى الأمر الواقع المُشتبِكَة مصلحيا (السلطة المُضمَرة). ولا أدلَّ على كون هذه التمايزات حقيقية من أن الوجود الإجتماعي نفسه، تحديدا بعد التحولات العميقة التي أفرزتها الحداثة، وجودٌ ذو طابع صراعي. إذ طالما أن علاقات القوة السائدة حديثا في أي مجتمع من المجتمعات تزداد تشابكا وتعقيدا يوما بعد يوم، فإن أبرز الإشكاليات الأنطولوجية التي يعيشها الفرد المعاصر والتي يمكن اختصارها بسؤال "ما أو من يحكمنا, وكيف؟" ستبقى مستعصية على الفهم والتفكيك (Manent, 2001). فالثابت في أتون المتحوِّل هو التالي: كلما تقدَّمت الحداثةُ بالناس، رغبة منهم أو رغما عنهم، كلما أصبحوا على حيرة من أمرِ حُكمِهم.
زبدة القول أن السياقية، الوجه الديالكتيكي المُقابِل للكليانية، تعني فتحَ الباب أمام إمكانية مَطِّ الأطر المفاهيمية التقليدية للتنظير للدولة-الأمة الحديثة، بحيث يُستَحضَر العنصر المدني بعد فتور ويُعمَل على ترسيخه منطلقا في التفكير والتحليل السياسيين، شأنه في ذلك شأن المنطلقات/العناصر التأسيسية الأخرى آنفة الذكر – الأرض والشعب والسيادة. بل، أبعد من ذلك، أحاجج بأن جعلَ العنصر المدني نقطةَ انطلاق رئيسية مهم ليس فقط على الصعيد النظري، بل أيضا، وهنا مربط الفرس، على صعيد الدفع نحو إرساء قواعد جديدة للتفكير بالتغيير المجتمعي تكون مبنية على أساس نظرة أكثرَ حركية-توليدية (social-constructionist) للدولة-الأمة (Jessop, 2016)، بمعنى نظرة أكثرَ إدراكا للممكنات المحلية في عملية التغيير وأكثرَ مخاطبة، بتعبير ماركسي، للذات البشرية المُستَلَبة، التي، كما أسلفت، لا تستطيع أن تحدّد بالضبط ما أو من يحكمها. هي إذا نظرة تحاول قدر الإمكان الموازنة بين فلسفتين: الواقعية الطبيعانية (الواقع والإنسان بوصفهما حواصلَ تاريخية مسيَّرَة) والواقعية التاريخانية (الواقع والإنسان بوصفهما حواصل تاريخية إنما قابلة لأن تتغيَّر وتتبدّل).
أن تُختزَل السياسة بموضوعات وقضايا بنيوية-تركيبية، كالموقع الجيو-استراتيجي للدولة-الأمة وأسئلة "الدور الإقليمي والعالمي" أمرٌ خطير للغاية. نعم، لا شك أن ما يسمى بالصورة الكاملة أو الشاملة مطلوبة ومهمة، ولكن، في نظرنا، الصناعاتُ المعرفية التي تكون مسخَّرَة حصرا لغرض استجلائها، على حساب ما هو مدني، تُعرِّض أصحابها، أي أصحاب تلك الصناعات، لخطر الإنزلاق رويدا رويدا نحو إمبريالية تحليلية تقضي على فرص الإسهام في تأمين الشروط اللازمة لتحقيق التغيير. من هنا، أريد أن أختم هذه المقالة بطرح بعض الأسئلة الإستعلامية، لا الإستنكارية، على "نجوم الشاشات" العربية من محللين وكتاب وخبراء: إلى متى الإستمرار في ادّعاء القدرة على الرصد الموضوعي الفوقي للظواهر والأحداث؟ إلى متى تجاهل و/أو تَقصُّد تجهيل وتقزيم العنصر المدني ومكانة ودور الفئات والقوى المدنية في الحفاظ على استقرار الدولة-الأمة شكلا ومضمونا أو العمل على تغييرها وتبديلها؟ ما محل الأفراد والجماعات العادية والمجتمعات المدنية والأهلية والقطاعات السياقية،" "اللاسيادية،" الواقعة خارج دائرة السطوة السلطوية المباشرة لعلاقات القوة السائدة، من الإعراب في النظريات والأطر المفاهيمية التي تستعملونها؟ إلى متى، على سبيل المثال، يستمر تغييب التعليم، أكثر القطاعات المدنية افتقارا إلى الإهتمام في مجهودات التنظير للدولة-الأمة العربية الحديثة؟ وأخيرا، إن كنتم تعتبرون أنفسكم مواطنين ومواطنات في دولة-أمة، معنيين بشؤونها وشجونها، هل من مستهدفات أخلاقية لعملكم؟ أين أنتم من التغيير المجتمعي ومعركة إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وهي معركة ذات طبيعة مفتوحة، باقية ما بقي التمايز المدني-السلطوي؟
المصادر:
Apple, M. W. (1993). What post‐modernists forget: Cultural capital and official knowledge. Curriculum Studies, 1(3), 301-316. https://doi.org/10.1080/0965975930010301
Jessop, B. (2016). The state: Past, present and future. Cambridge: Polity Press.
Manent, P. (2001). A world beyond politics? A defense of the nation-state. Princeton: Princeton University Press.
Nye, J. S. (2004). Power in the global information age: From realism to globalization. London: Routledge.
Weber, M. (1946). Politics as a vocation. In H. H. Gerth & C. W. Mills (Eds.), From Max Weber: Essays in Sociology (77-128). London: Routledge.
تعليقات
إرسال تعليق