مشاكل/إشكاليات المجتمع المدني اللبناني



يمر المجتمع المدني اللبناني في أزمة هوية ومسار وخيارات خطيرة. والدليل على ذلك ليس الفشل الأخير في انتخابات نقابة المحامين في بيروت والشمال، لأن الإنتخابات ببساطة شديدة لعبة استراتيجيات وتحرّكات وعمليات مكلفة، وقتا ومالا وجهدا، تخيب حينا وتثمر حينا أخرى. بكلام آخر، لا حرج على من يخسر في الانتخابات. ومن الخطأ، في نظري، الاستغراق في تحديد وتشريح أسباب الخسارة المباشرة، أي الخسارة في العملية الاقتراعية. فالأجدى، والحال على ما هو عليه من اختزال السياسة برمتها في الانتخابات (في العالمين الشمالي والجنوبي)، وهي الظاهرة الكونية-التاريخية التي باتت تُعرف في الأوساط الأكاديمية بال"electorism" (انظر Reybrouck, 2013)، (الأجدى) أن يُصار إلى مراجعات، لا تراجعات، ذاتية مُكثّفة ومُعمّقة، بغرض استكشاف مشاكلَ بنيوية واجتراح مُعالجات تحضيرا للاستحقاقات القادمة. 


وبناء عليه، ما هي مشاكل المجتمع المدني اللبناني البنيوية؟ برأيي، هناك أربع مشاكل، وهي مشاكل معلومة ومتداولة ومُتناولة في المنشورات وعلى المنابر. ما ينقص ليس لحظها، إنما الاعتراف بوجودها وتأثيراتها وتداعياتها على الصُّعد كافة، وعلى المديين القريب والبعيد. والأدهى أن هذه المشاكل ترقى لأن تكون إشكاليات - بعكس المشكلة (problem)، الإشكالية (polemic) لا حلولَ آلية ودائمة لها. هناك إذا أربع مشاكل/إشكاليات ينبغي النظر فيها، وهي، باختصار، الآتي:


١. رفض إمكانية تحقيق الإجماع (consensus)، تحديدا الإجماع المعرفي (ontic and epistemic)، حول أسباب انهيار الدولة والمجتمع وسبل تخطيها. ويرفُد هذا الرفضَ المتعنِّتَ غيابُ مساحات التدارس والتناقش (deliberation) واعتبار أن اللاقيادة (leaderlessness) أنجع وأكثر ملاءمة للعصر من القيادة. 


٢. فوقية ذكورية، ذات لغاتٍ تخصّصية جامدة ومُغرِّبَة، في الخطابين السوسيو-سياسي والسوسيو-ثقافي، تتجلى في أخطر صورها في قناعةِ البعض أن المجتمع جاهل وقاصر، وهو بالتالي بحاجة إلى تثقيف وترشيد. لماذا؟ لأن طوائفه "مُتخيّلات" ينبغي تجاوزها! (تُذكّرني هذه الفوقية التي يمارسها بعضُ المجتمع المدني اللبناني بإصرار وعِناد مُلفتَيْن بدستور "البعث السوري" الذي ينصُّ على أن "الحزبَ هو قائدُ الدولة والمجتمع" معا وأن الأخيرَ لا يزال قاصرا عن "تحقيق الديمقراطية"!)


٣. استهدافات سلطة الأحزاب التقليدية التي تتوجس من أصوات المجتمع المدني لأنها تدرك تماما أن "الداخل اللبناني" بكل عناصره السياسية والاجتماعية والثقافية (وحتى الهوياتية) قد تبدّل من حال إلى حال. ما قبل ثورة أكتوبر ٢٠١٩ ليس، أو حتما لن يكون، كما بعده. وما قبل تفجير المرفأ ٢٠٢٠ ليس، أو حتما لن يكون، كما بعده. هذه ثابتة مادية تاريخية عصيّة على النكران. من الأمثلة على استهدافات "أهل السلطة" التحريض المستمر على حركات وجمعيات المجتمع المدني بوصفها "مموّلة خارجيا" و"عميلة عند السفارة الأميركية وسفارات الدول الأوروبية."


٤. الفصل بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. بل، أكثر وأخطر من ذلك، هناك عدم فهم - أو، ربما، عدم تقدير واف؟ - للمسائل الجيوبوليتيكية المعقّدة في منطقة الشرق الأوسط. أسأل هنا: لماذا تحضر الجرأة عندما يتعلق الأمر بأهل الحُكم وتغيب عندما تُستحضر أدوار ومسؤوليات الدول العظمى والإقليمية؟ التوسُّعيات الإقليمية، تحديدا الإيرانية والصهيو-أميركية، توسُّعيات حقيقية. الشواهد عليها لا تعد ولا تحصى. لذا، في نظري، التقاعس في العمل على إيجاد خطاب جيوبوليتيكي نقيصة، إذ أن المجتمع المدني بحاجة ماسة إلى هذا النوع من الخطاب كي يتمكن من إقناع "صُنّاع القرار" العالميين والإقليميين بجدوى طرحه ومساندته كبديل شرعي عن الائتلاف العصاباتي الحاكم اليوم. 


من هنا، من التصدّي التكاملي، النظري والعملي معا، لهذه المشاكل/الإشكاليات، تبدأ المراجعة الذاتية. المجتمع المدني هو أمل خلاصنا الوحيد. (الحديث هنا عن لبنان ٢٠٣٠ و٢٠٥٠ وليس لبنان ٢٠٢٢.) نريدُ منه أن ينتظم ويقوم من كبوته عاجلا لا آجلا.


المصادر:


.Reybrouck, V. D. (2013). Against elections: The case for democracy. London: The Bodley Head

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد