اللبنانيون... ومن الحب ما قتل



قبل أيام جمعتني مكالمة هاتفية مع صديق لبناني. صديقي "يساري"، كما يعرّف هو عن نفسه، ولكنه يقرّ بتأثيرات "البيئة المسيحية المارونية" حيث وُلد وترعرعَ عليه. 

زبدةُ مكالمتنا كانت مفاتحتَه إياي بأنه "يشمئز" من الإسلام نفسه، وليس المسلمين (بعكس السائدِ من القولِ والفكرِ في الأوساط العلمائية والشعبية معا، حيث "الإشمئزاز" من المسلمين وليس الإسلام)، لأن هذا الدينَ الذي، على حد وصفه، بدأ "تقدّميا" أخذ يتقهقر ويتراجع إلى "رجعية" ظلامية تستعصي على التجاوز. ليس هذا فقط، بل يرى صديقي أن ضرورات التكيّف مع عصر ما بعد الحداثة تستدعي إزاحة الإسلام بكليته، عقائدَ وقيما وطرائقَ تفكير ومساقات معاش وتعارف وتثاقف، أي الذهاب إلى ما هو أبعد من هَجْر الإسلام من حيث كونه منظومة مسلّمات غيبية. ومع تأكيده، كما سبقت الإشارة، على أن خطابه يصوّب على الإسلام، وليس المسلمين، إلا أنه أسرّ لي أيضا أنه لا يحب المسلمين، بل ويجد صعوبة بالغة في مخالطة الكثيرين منهم وقبول فكرة أن التعايش معهم ممكن. فهو مدني-ليبرالي يُعلي من شأن حرياته الفردية وسلوكياته النمطية التحرّرية، بينما هم يتوجّسون من الآخر الديني. "أليس من المستغرب أن المسلم يسعى جاهدا للسكن والعيش والإندماج في مناطق المسيحي، بينما فكرة العيش بين المسلمين غير واردة أصلا عند الأخير؟" يتساءل صديقي.

وافقته في أشياء وعارضته في أشياء كثيرة أخرى. (لن أخفي هنا امتعاضي. فأنا، وإن لم أكن مسلما عبادةً وتعاملا، إلا أنني مسلم ثقافيا - تعبير "المسلم الثقافي" اقتباسٌ قياسي نظري من تراث "اليهودي الثقافي"، cultural Jew، وهو تعبير بحاجة إلى أفهمة وتحديد ودراسة.) ولكن ما أثار حفيظتي إلى حد كبير هو تلمُّسي لعَيْبٍ أساسي في مُسبقاته الفكرية حول الإسلام والمسلمين، خاصة في السياق اللبناني. يكمن هذا العيب في الظن أو التفكير أو الإعتقاد أو الشعور أو المحاججة من موقع الإفتراض بأن على اللبنانيين أن يحبوا بعضهم البعض! أن مشاكلنا، نحن اللبنانيين، نابعة من الكره، من انخفاض مُقلِق في منسوب الحب بيننا! لكأني بصديقي هذا، من حيث يدري أو لا يدري، يُبطنُ فلسفةً هي أقرب في رومانطيقيتها الأنتي-سوسيولوجية إلى فلسفات المحافَظَة الدينية السياسية الأوروبية - انظر على سبيل المثال سوكروتن (٢٠١٤) - التي تدحض فكرة العقد الإجتماعي (ميراث تنويري) لصالح الحب والجيرة (ميراث كنسي-تبشيري)! اخلط مقدارا من الحب بمقدار من الجيرة وربما مقادير أخرى من النوع ذاته، كالإعتراف (عند المسيحيين) والعفو عند المقدرة (عند المسلمين)، وستحصل على مجتمع!

لست أدري من أين أتى هذا العيب. هل هو من اضطرابات السيكولوجيا الجماهيرية اللبنانية التي أعطبتها مُتَتالية التأسيس وإعادة التأسيس (من ١٩٤٣ إلى ١٩٥٨ إلى ١٩٧٥ إلى ١٩٩٠ إلى ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٨ إلى تشرين الأول ٢٠١٩ فآب ٢٠٢٠)؟ أم هو مجرد تعبير آخر عن حالة القلق، الضياع، التشتت الذهني، الإرتباك العميق، الجهل بطبيعة الأشياء والأمور و/أو فقدان القدرة على التشخيص والمعالجة التي نتجت عن حرمان اللبنانيين من حق المشاركة الفعلية، لا الديمقراطية-الإقتراعية، في إدارة ومحاسبة المؤسسات ورسم معالم الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية؟ حقّا لست أدري. ولكن، بناء على مشاهداتي ومعايناتي، بإمكاني أن أزعم بأن مفردة "الحب" وحقلها المعجمي الغزير تميّز جزءا كبيرا من الأنساق الخطابية السياسية التي يتبناها أو يتماهى معها عدد لا بأس به من اللبنانيين، خواص (مهنيين وعمال وحملة شهادات) وعوام. 
 
وهنا السؤال المفتاح: من قال لك أيها اللبناني إن مواطنيَّتَك المنشودة ينبغي أن تتأسس على علاقات "حب" مع الآخر الديني/الطائفي؟ من قال لك أيها اللبناني المسلم - أو المسلم اللبناني - إن بناء وطننا ودولتنا ومجتمعنا مُتوقّف عند قدرتك على مساءلة تحيُّزاتك المناطقية وبالتالي استعدادك لتقبّل السكن والإندماج في، على سبيل المثال، بشرّي أو زحلة أو الأشرفية في بيروت؟ وقياسا عليه، ما الذي يجعلك أيها اللبناني المسيحي - أو المسيحي اللبناني - تعتقد أن فكرة استحالة العيش في "مناطق المسلمين"، مثل طرابلس، تحيل إلى فشل نموذج "العيش المشترك" اللبناني، وبالتالي اعتبار مشاريع من قبيل الفدرلة أو التجزئة أو اللامركزية الإدارية والمالية الشاملة بدائل حتمية؟ (أستسمح هنا القارئ الأكاديمي الذي قد يستشعر اختزاليات غير مستحبة في هذه الأسئلة. أنا لا أنكر أبدا أن مسائل الديمغرافيا والإختلاط الديمغرافي حساسة وخطيرة، خاصة إذا ما نظرنا إليها من زاوية ملفات شائكة كملف بلدة الحدت. لكن موضوعي يتعدّى اعتبارات الجغرافيا والتاريخ. هو فلسفي-سياسي، وهو محاولةٌ أولية تستهدف فهمَ مكانة "الحب" في خارطة الإجتماع البشري اللبناني.)

مثل لبنان كمثل ذلك المراهق المُتيَّم الذي يضع صاحبته بين خيارين مستحيلين: إما حب لا حدود له، وإما كره وجفاء وأذية عمياء. ولكن تشييد الأوطان وبناء وحماية المجتمعات مهمّة عظيمة لا شأن للحب بها. هي مهمّة بحاجة إلى تعاقديّات (contractualities) تنشأ عبر الإتصال والتواصل، المجادلة، الحوار، المفاوضة، المساومة، التنازل وغير ذلك من عمليات البحث الدائم عن "مُتَّفقات عقلية"، بتعبير ابن تيمية. لذا، أقول لصديقي، ولمجتمعنا اللبناني، لك أن تحب أو تكره من/ما تشاء. لا يهم. فالحب قد يؤلف بين حبيبين، أو يدخل الدفئ إلى علاقة زوجية، أو يساعد على لم شمل الأصدقاء، أو يكون قيمة معنوية حسنة (في التعليم والرعاية الصحية، على سبيل المثال)، ولكنه لا ينقذ وطنا. ليس لأنه عاجز، بل لأن الأمرَ ليس من اختصاصه أصلا.


المراجع:

Scruton, R. (2014). How to be a conservative. London: Bloomsbury.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تكون فلسطينيا: نص فينومينولوجي

أين مناهجنا من الإنسان اللبناني؟

العرب يبحثون عن بعبع اجتماعي جديد